فصل: فَصْلٌ (تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَوُجُوبِ حِفْظِ الْفَرْجِ)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الداء والدواء المسمى بـ «الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي» ***


فَصْلٌ حَقِيقَةُ الشِّرْكِ

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ انْفَتَحَ لَكَ بَابُ الْجَوَابِ عَنِ السُّؤَالِ الْمَذْكُورِ، فَنَقُولُ، وَمِنَ اللَّهِ وَحْدَهُ نَسْتَمِدُّ الصَّوَابَ‏:‏

حَقِيقَةُ الشِّرْكِ‏:‏ هُوَ التَّشَبُّهُ بِالْخَالِقِ وَتَشْبِيهُ الْمَخْلُوقِ بِهِ، هَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ فِي الْحَقِيقَةِ، لَا إِثْبَاتُ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي وَصَفَ اللَّهُ بِهَا نَفْسَهُ، وَوَصَفَهُ بِهَا رَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَعَكَسَ الْأَمْرَ مَنْ نَكَسَ اللَّهُ قَلَبَهُ وَأَعْمَى بَصِيرَتَهُ وَأَرْكَسَهُ بِكَسْبِهِ، وَجَعَلَ التَّوْحِيدَ تَشْبِيهًا وَالتَّشْبِيهَ تَعْظِيمًا وَطَاعَةً، فَالْمُشْرِكُ مُشَبِّهٌ لِلْمَخْلُوقِ بِالْخَالِقِ فِي خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ‏.‏

فَإِنَّ مِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ التَّفَرُّدَ بِمِلْكِ الضُّرِّ وَالنَّفْعِ وَالْعَطَاءِ وَالْمَنْعِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ تَعْلِيقَ الدُّعَاءِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ وَالتَّوَكُّلِ بِهِ وَحْدَهُ، فَمَنْ عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالْخَالِقِ وَجَعَلَ مَنْ لَا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا، وَلَا مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ - شَبِيهًا بِمَنْ لَهُ الْأَمْرُ كُلُّهُ، فَأَزِمَّةُ الْأُمُورِ كُلِّهَا بِيَدَيْهِ، وَمَرْجِعُهَا إِلَيْهِ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لَا مَانِعَ لِمَا أَعْطَى، وَلَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعَ، بَلْ إِذَا فَتَحَ لِعَبْدِهِ بَابَ رَحْمَتِهِ لَمْ يُمْسِكْهَا أَحَدٌ، وَإِنْ أَمْسَكَهَا عَنْهُ لَمْ يُرْسِلْهَا إِلَيْهِ أَحَدٌ‏.‏

فَمِنْ أَقْبَحِ التَّشْبِيهِ‏:‏ تَشْبِيهُ هَذَا الْعَاجِزِ الْفَقِيرِ بِالذَّاتِ بِالْقَادِرِ الْغَنِيِّ بِالذَّاتِ‏.‏

وَمِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ‏:‏ الْكَمَالُ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ الَّذِي لَا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ أَنْ تَكُونَ الْعِبَادَةُ كُلُّهَا لَهُ وَحْدَهُ، وَالتَّعْظِيمُ وَالْإِجْلَالُ وَالْخَشْيَةُ وَالدُّعَاءُ وَالرَّجَاءُ وَالْإِنَابَةُ وَالتَّوْبَةُ وَالتَّوَكُّلُ وَالِاسْتِعَانَةُ، وَغَايَةُ الذُّلِّ مَعَ غَايَةِ الْحُبِّ - كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَفِطْرَةً أَنْ يَكُونَ لَهُ وَحْدَهُ، وَيَمْتَنِعُ عَقْلًا وَشَرْعًا وَفِطْرَةً أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، فَمَنْ جَعَلَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَ ذَلِكَ الْغَيْرَ بِمَنْ لَا شَبِيهَ لَهُ وَلَا مَثِيلَ وَلَا نِدَّ لَهُ، وَذَلِكَ أَقْبَحُ التَّشْبِيهِ وَأَبْطَلُهُ، وَلِشِدَّةِ قُبْحِهِ وَتَضَمُّنِهِ غَايَةَ الظُّلْمِ أَخْبَرَ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ أَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ، مَعَ أَنَّهُ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ‏.‏

وَمِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ‏:‏ الْعُبُودِيَّةُ الَّتِي قَامَتْ عَلَى سَاقَيْنِ لَا قِوَامَ لَهَا بِدُونِهِمَا‏:‏ غَايَةِ الْحُبِّ، مَعَ غَايَةِ الذُّلِّ‏.‏ هَذَا تَمَامُ الْعُبُودِيَّةِ، وَتَفَاوُتُ مَنَازِلِ الْخَلْقِ فِيهَا بِحَسَبِ تَفَاوُتِهِمْ فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ‏.‏

فَمَنْ أَعْطَى حُبَّهُ وَذُلَّهُ وَخُضُوعَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ فِي خَالِصِ حَقِّهِ، وَهَذَا مِنَ الْمُحَالِ أَنْ تَجِيءَ بِهِ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرَائِعِ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي كُلِّ فِطْرَةٍ وَعَقْلٍ، وَلَكِنْ غَيَّرَتِ الشَّيَاطِينُ فِطَرَ الْخَلْقِ وَعُقُولَهُمْ وَأَفْسَدَتْهَا عَلَيْهِمْ، وَاجْتَالَتْهُمْ عَنْهَا، وَمَضَى عَلَى الْفِطْرَةِ الْأُولَى مَنْ سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ الْحُسْنَى، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ بِمَا يُوَافِقُ فِطَرَهُمْ وَعُقُولَهُمْ، فَازْدَادُوا بِذَلِكَ نُورًا عَلَى نُورٍ، ‏{‏يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ‏}‏ ‏[‏النُّورِ‏:‏ 35‏]‏‏.‏

إِذَا عُرِفَ هَذَا فَمِنْ خَصَائِصِ الْإِلَهِيَّةِ السُّجُودُ، فَمَنْ سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَ الْمَخْلُوقَ بِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ التَّوَكُّلُ، فَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَى غَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ التَّوْبَةُ، فَمَنْ تَابَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ الْحَلِفُ بِاسْمِهِ تَعْظِيمًا وَإِجْلَالًا لَهُ، فَمَنْ حَلَفَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ، هَذَا فِي جَانِبِ التَّشْبِيهِ‏.‏

وَأَمَّا فِي جَانِبِ التَّشَبُّهِ بِهِ‏:‏ فَمَنْ تَعَاظَمَ وَتَكَبَّرَ وَدَعَا النَّاسَ إِلَى إِطْرَائِهِ فِي الْمَدْحِ وَالتَّعْظِيمِ وَالْخُضُوعِ وَالرَّجَاءِ، وَتَعْلِيقِ الْقَلْبِ بِهِ خَوْفًا وَرَجَاءً وَالْتِجَاءً وَاسْتِعَانَةً، فَقَدْ تَشَبَّهَ بِاللَّهِ وَنَازَعَهُ فِي رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ، وَهُوَ حَقِيقٌ بِأَنْ يُهِينَهُ غَايَةَ الْهَوَانِ، وَيُذِلَّهُ غَايَةَ الذُّلِّ، وَيَجْعَلَهُ تَحْتَ أَقْدَامِ خَلْقِهِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ الْعَظَمَةُ إِزَارِي، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا عَذَّبْتُهُ»‏.‏

وَإِذَا كَانَ الْمُصَوِّرُ الَّذِي يَصْنَعُ الصُّورَةَ بِيَدِهِ مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِتَشَبُّهِهِ بِاللَّهِ فِي مُجَرَّدِ الصُّورَةِ، فَمَا الظَّنُّ بِالتَّشَبُّهِ بِاللَّهِ فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ‏؟‏

كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمُصَوِّرُونَ، يُقَالُ لَهُمْ أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ»‏.‏ وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ ‏[‏وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا شَعِيرَةً‏]‏، فَنَبَّهَ بِالذَّرَّةِ وَالشَّعِيرَةِ عَلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا وَأَكْبَرُ‏.‏

وَالْمَقْصُودُ‏:‏ أَنَّ هَذَا حَالُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي صَنْعَةِ صُورَةٍ، فَكَيْفَ حَالُ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي خَوَاصِّ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ‏؟‏ وَكَذَلِكَ مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي الِاسْمِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِلَّا لِلَّهِ وَحْدَهُ، كَمَلِكِ الْمُلُوكِ، وَحَاكِمِ الْحُكَّامِ، وَنَحْوِهِ‏.‏

وَقَدْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ إِنَّ أَخْنَعَ الْأَسْمَاءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِشَاهَانْ شَاهْ - أَيْ مَلِكِ الْمُلُوكِ - لَا مَلِكَ إِلَّا اللَّهُ» وَفِي لَفْظٍ‏:‏ أَغِيظُ رَجُلٍ عَلَى اللَّهِ رَجُلٌ يُسَمَّى بِمَلِكِ الْأَمْلَاكِ»

فَهَذَا مَقْتُ اللَّهِ وَغَضَبُهُ عَلَى مَنْ تَشَبَّهَ بِهِ فِي الِاسْمِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي إِلَّا لَهُ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَحْدَهُ، وَهُوَ حَاكِمُ الْحُكَّامِ وَحْدَهُ، فَهُوَ الَّذِي يَحْكُمُ عَلَى الْحُكَّامِ كُلِّهِمْ، وَيَقْضِي عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، لَا غَيْرُهُ‏.‏

فَصْلٌ سُوءُ الظَّنِّ بِاللَّهِ

إِذَا تَبَيَّنَ هَذَا فَهَاهُنَا أَصْلٌ عَظِيمٌ يَكْشِفُ سِرَّ الْمَسْأَلَةِ، وَهُوَ أَنَّ أَعْظَمَ الذُّنُوبِ عِنْدَ اللَّهِ إِسَاءَةُ الظَّنِّ بِهِ، فَإِنَّ الْمُسِيءَ بِهِ الظَّنَّ قَدْ ظَنَّ بِهِ خِلَافَ كَمَالِهِ الْمُقَدَّسِ، وَظَنَّ بِهِ مَا يُنَاقِضُ أَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ، وَلِهَذَا تَوَعَّدَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الظَّانِّينَ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ بِمَا لَمْ يَتَوَعَّدْ بِهِ غَيْرَهُمْ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْفَتْحِ‏:‏ 6‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى لِمَنْ أَنْكَرَ صِفَةً مِنْ صِفَاتِهِ‏:‏ ‏{‏وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فُصِّلَتْ‏:‏ 23‏]‏‏.‏

قَالَ تَعَالَى عَنْ خَلِيلِهِ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ قَالَ لِقَوْمِهِ‏:‏ ‏{‏مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏الصَّافَّاتِ‏:‏ 85 - 87‏]‏‏.‏

أَيْ فَمَا ظَنُّكُمْ أَنْ يُجَازِيَكُمْ بِهِ إِذَا لَقِيتُمُوهُ وَقَدْ عَبَدْتُمْ غَيْرَهُ‏؟‏ وَمَا ظَنَنْتُمْ بِهِ حِينَ عَبَدْتُمْ مَعَهُ غَيْرَهُ‏؟‏

وَمَا ظَنَنْتُمْ بِأَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَرُبُوبِيَّتِهِ مِنَ النَّقْصِ حَتَّى أَحْوَجَكُمْ ذَلِكَ إِلَى عُبُودِيَّةِ غَيْرِهِ‏؟‏ فَلَوْ ظَنَنْتُمْ بِهِ مَا هُوَ أَهْلُهُ مِنْ أَنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَأَنَّهُ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا سِوَاهُ، وَكُلُّ مَا سِوَاهُ فَقِيرٌ إِلَيْهِ، وَأَنَّهُ قَائِمٌ بِالْقِسْطِ عَلَى خَلْقِهِ، وَأَنَّهُ الْمُنْفَرِدُ بِتَدْبِيرِ خَلْقِهِ لَا يُشْرِكُهُ فِيهِ غَيْرُهُ، وَالْعَالِمُ بِتَفَاصِيلِ الْأُمُورِ، فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ خَافِيَةٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَالْكَافِي لَهُمْ وَحْدَهُ فَلَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعِينٍ، وَالرَّحْمَنُ بِذَاتِهِ، فَلَا يَحْتَاجُ فِي رَحْمَتِهِ إِلَى مَنْ يَسْتَعْطِفُهُ، وَهَذَا بِخِلَافِ الْمُلُوكِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الرُّؤَسَاءِ، فَإِنَّهُمْ يَحْتَاجُونَ إِلَى مَنْ يُعَرِّفُهُمْ أَحْوَالَ الرَّعِيَّةِ وَحَوَائِجَهُمْ، وَيُعِينُهُمْ إِلَى قَضَاءِ حَوَائِجِهِمْ، وَإِلَى مَنْ يَسْتَرْحِمُهُمْ وَيَسْتَعْطِفُهُمْ بِالشَّفَاعَةِ، فَاحْتَاجُوا إِلَى الْوَسَائِطِ ضَرُورَةً، لِحَاجَتِهِمْ وَضَعْفِهِمْ وَعَجْزِهِمْ وَقُصُورِ عِلْمِهِمْ‏.‏

فَأَمَّا الْقَادِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، الْغَنِيُّ عَنْ كُلِّ شَيْءٍ، الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ الَّذِي وَسِعَتْ رَحْمَتُهُ كُلَّ شَيْءٍ، فَإِدْخَالُ الْوَسَائِطِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَلْقِهِ نَقْصٌ بِحَقِّ رُبُوبِيَّتِهِ وَإِلَهِيَّتِهِ وَتَوْحِيدِهِ، وَظَنٌّ بِهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَهَذَا يَسْتَحِيلُ أَنْ يَشْرَعَهُ لِعِبَادِهِ، وَيَمْتَنِعُ فِي الْعُقُولِ وَالْفِطَرِ جَوَازُهُ، وَقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ فِي الْعُقُولِ السَّلِيمَةِ فَوْقَ كُلِّ قَبِيحٍ‏.‏

يُوَضِّحُ هَذَا‏:‏ أَنَّ الْعَابِدَ مُعَظِّمٌ لِمَعْبُودِهِ، مُتَأَلِّهٌ خَاضِعٌ ذَلِيلٌ لَهُ، وَالرَّبُّ تَعَالَى وَحْدَهُ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ كَمَالَ التَّعْظِيمِ وَالْجَلَالِ وَالتَّأَلُّهِ وَالْخُضُوعِ وَالذُّلِّ، وَهَذَا خَالِصُ حَقِّهِ، فَمِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ أَنْ يُعْطِيَ حَقَّهُ لِغَيْرِهِ، أَوْ يُشْرِكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ فِيهِ، وَلَا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الَّذِي جُعِلَ شَرِيكَهُ فِي حَقِّهِ هُوَ عَبْدُهُ وَمَمْلُوكُهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الرُّومِ‏:‏ 28‏]‏‏.‏

أَيْ‏:‏ إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يَأْنَفُ أَنْ يَكُونَ مَمْلُوكُهُ شَرِيكَهُ فِي رِزْقِهِ، فَكَيْفَ تَجْعَلُونَ لِي مِنْ عَبِيدِي شُرَكَاءَ فِيمَا أَنَا بِهِ مُنْفَرِدٌ‏؟‏ وَهُوَ الْإِلَهِيَّةُ الَّتِي لَا تَنْبَغِي لِغَيْرِي، وَلَا تَصِحُّ لِسِوَايَ‏.‏

فَمَنْ زَعَمَ ذَلِكَ فَمَا قَدَرَنِي حَقَّ قَدْرِي، وَلَا عَظَّمَنِي حَقَّ تَعْظِيمِي، وَلَا أَفْرَدَنِي بِمَا أَنَا مُفْرَدٌ بِهِ وَحْدِي دُونَ خَلْقِي، فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْحَجِّ‏:‏ 73 - 74‏]‏‏.‏

فَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ عَبَدَ مَعَهُ غَيْرَهُ، مِمَّنْ لَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِ أَضْعَفِ حَيَوَانٍ وَأَصْغَرِهِ، وَإِنْ سَلَبَهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا مِمَّا عَلَيْهِ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى اسْتِنْقَاذِهِ مِنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزُّمَرِ‏:‏ 67‏]‏ فَمَا قَدَرَ مَنْ هَذَا شَأْنُهُ وَعَظَمَتُهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ فِي عِبَادَتِهِ مَنْ لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ

ذَلِكَ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ أَعْجَزُ شَيْءٍ وَأَضْعَفُهُ، فَمَا قَدَرَ الْقَوِيَّ الْعَزِيزَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ الضَّعِيفَ الذَّلِيلَ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَى خَلْقِهِ رَسُولًا، وَلَا أَنْزَلَ كِتَابًا، بَلْ نَسَبَهُ إِلَى مَا لَا يَلِيقُ بِهِ وَلَا يَحْسُنُ مِنْهُ، مِنْ إِهْمَالِ خَلْقِهِ وَتَضْيِيعِهِمْ وَتَرْكِهِمْ سُدًى، وَخَلْقِهِمْ بَاطِلًا وَعَبَثًا، وَلَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقَائِقَ أَسْمَائِهِ الْحُسْنَى وَصِفَاتِهِ الْعُلَا، فَنَفَى سَمْعَهُ وَبَصَرَهُ وَإِرَادَتَهُ وَاخْتِيَارَهُ وَعُلُوَّهُ فَوْقَ خَلْقِهِ، وَكَلَامَهُ وَتَكْلِيمَهُ لِمَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ بِمَا يُرِيدُهُ، أَوْ نَفَى عُمُومَ قُدْرَتِهِ وَتَعَلُّقَهَا بِأَفْعَالِ عِبَادِهِ مِنْ طَاعَتِهِمْ وَمَعَاصِيهِمْ، فَأَخْرَجَهَا عَنْ قُدْرَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ وَخَلْقِهِ، وَجَعَلَهُمْ يَخْلُقُونَ لِأَنْفُسِهِمْ مَا يَشَاءُونَ بِدُونِ مَشِيئَةِ الرَّبِّ، فَيَكُونُ فِي مُلْكِهِ مَا لَا يَشَاءُ، وَيَشَاءُ مَا لَا يَكُونُ‏.‏ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ أَشْبَاهِ الْمَجُوسِ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ يُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى مَا لَا يَفْعَلُهُ الْعَبْدُ، وَلَا لَهُ عَلَيْهِ قُدْرَةٌ، وَلَا تَأْثِيرٌ لَهُ فِيهِ أَلْبَتَّةَ، بَلْ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيُعَاقِبُ عَبْدَهُ عَلَى فِعْلِهِ هُوَ سُبْحَانَهُ الَّذِي جَبَرَ الْعَبْدَ عَلَيْهِ‏.‏ وَجَبْرُهُ عَلَى الْفِعْلِ أَعْظَمُ مِنْ إِكْرَاهِ الْمَخْلُوقِ لِلْمَخْلُوقِ، وَإِذَا كَانَ مِنَ الْمُسْتَقِرِّ فِي الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ أَنَّ السَّيِّدَ لَوْ أَكْرَهَ عَبَدَهُ عَلَى فِعْلٍ، أَوْ أَلْجَأَهُ إِلَيْهِ ثُمَّ عَاقَبَهُ عَلَيْهِ لَكَانَ قَبِيحًا، فَأَعْدَلُ الْعَادِلِينَ وَأَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ كَيْفَ يَجْبُرُ الْعَبْدَ عَلَى فِعْلٍ لَا يَكُونُ لِلْعَبْدِ فِيهِ صُنْعٌ وَلَا تَأْثِيرٌ، وَلَا هُوَ وَاقِعٌ بِإِرَادَتِهِ، بَلْ وَلَا هُوَ فِعْلُهُ أَلْبَتَّةَ، ثُمَّ يُعَاقِبُ عَلَيْهِ عُقُوبَةَ الْأَبَدِ‏؟‏ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا، وَقَوْلُ هَؤُلَاءِ شَرٌّ مِنْ أَقْوَالِ الْمَجُوسِ‏.‏ وَالطَّائِفَتَانِ مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ مَا قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ لَمْ يَصُنْهُ عَنْ نَتَنٍ وَلَا حُشٍّ، وَلَا مَكَانٍ يُرْغَبُ عَنْ ذِكْرِهِ بَلْ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ، صَانَهُ عَنْ عَرْشِهِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَوِيًا عَلَيْهِ‏:‏ ‏{‏إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ فَاطِرٍ‏:‏ 10‏]‏‏.‏

وَتَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ، وَتَنْزِلُ مِنْ عِنْدِهِ‏:‏ ‏{‏يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ السَّجْدَةِ‏:‏ 5‏]‏‏.‏

فَصَانَهُ عَنِ اسْتِوَائِهِ عَلَى سَرِيرِ الْمُلْكِ، ثُمَّ جَعَلَهُ فِي كُلِّ مَكَانٍ يَأْنَفُ الْإِنْسَانُ، بَلْ غَيْرُهُ مِنَ الْحَيَوَانِ أَنْ يَكُونَ فِيهِ‏.‏

وَمَا قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ مَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَرَأْفَتِهِ وَرِضَاهُ وَغَضَبِهِ وَمَقْتِهِ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ حِكْمَتِهِ الَّتِي هِيَ الْغَايَاتُ الْمَحْمُودَةُ الْمَقْصُودَةُ بِفِعْلِهِ، وَلَا مَنْ نَفَى حَقِيقَةَ فِعْلِهِ، وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ فِعْلًا اخْتِيَارِيًّا يَقُومُ بِهِ، بَلْ أَفْعَالُهُ مَفْعُولَاتٌ مُنْفَصِلَةٌ عَنْهُ، فَنَفَى حَقِيقَةَ مَجِيئِهِ وَإِتْيَانِهِ وَاسْتِوَائِهِ عَلَى عَرْشِهِ، وَتَكْلِيمِهِ مُوسَى مِنْ جَانِبِ الطُّورِ، وَمَجِيئِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِفَصْلِ الْقَضَاءِ بَيْنَ عِبَادِهِ بِنَفْسِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ أَفْعَالِهِ وَأَوْصَافِ كَمَالِهِ، الَّتِي نَفَوْهَا وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ بِنَفْيِهَا قَدَرُوهُ حَقَّ قَدْرِهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ جَعَلَ لَهُ صَاحِبَةً وَوَلَدًا، أَوْ جَعَلَهَ سُبْحَانَهُ يَحِلُّ فِي جَمِيعِ مَخْلُوقَاتِهِ، أَوْ جَعَلَهُ عَيْنَ هَذَا الْوُجُودِ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ‏:‏ إِنَّهُ رَفَعَ أَعْدَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلِ بَيْتِهِ وَأَعْلَى ذِكْرَهُمْ، وَجَعَلَ فِيهِمُ الْمُلْكَ وَالْخِلَافَةَ وَالْعِزَّ، وَوَضَعَ أَوْلِيَاءَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَأَهْلَ بَيْتِهِ وَأَهَانَهُمْ وَأَذَلَّهُمْ وَضَرَبَ عَلَيْهِمُ الذُّلَّ أَيْنَمَا ثُقِفُوا، وَهَذَا يَتَضَمَّنُ غَايَةَ الْقَدْحِ فِي جَنَابِ الرَّبِّ‏.‏ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الرَّافِضَةِ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

وَهَذَا الْقَوْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ قَوْلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي رَبِّ الْعَالَمِينَ أَنَّهُ أَرْسَلَ مَلِكًا ظَالِمًا، فَادَّعَى النُّبُوَّةَ لِنَفْسِهِ، وَكَذَبَ عَلَى اللَّهِ، وَمَكَثَ زَمَانًا طَوِيلًا يَكْذِبُ عَلَى اللَّهِ كُلَّ وَقْتٍ، وَيَقُولُ‏:‏ قَالَ اللَّهُ كَذَا، وَأَمَرَ بِكَذَا، وَنَهَى عَنْ كَذَا، يَنْسَخُ شَرَائِعَ أَنْبِيَائِهِ وَرُسُلِهِ، وَيَسْتَبِيحُ دِمَاءَ أَتْبَاعِهِمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَحَرِيمَهُمْ، وَيَقُولُ‏:‏ اللَّهُ أَبَاحَ لِي ذَلِكَ، وَالرَّبُّ تَعَالَى يُظْهِرُهُ وَيُؤَيِّدُهُ، وَيُعْلِيهِ، وَيُعِزُّهُ، وَيُجِيبُ دَعَوَاتِهِ، وَيُمَكِّنُهُ مِمَّنْ خَالَفَهُ، وَيُقِيمُ الْأَدِلَّةَ عَلَى صِدْقِهِ، وَلَا يُعَادِيهِ أَحَدٌ إِلَّا ظَفِرَ بِهِ، فَيَصْدُقُهُ بِقَوْلِهِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيرِهِ، وَيُحْدِثُ أَدِلَّةَ تَصْدِيقِهِ شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا يَتَضَمَّنُ أَعْظَمَ الْقَدْحِ وَالطَّعْنِ فِي الرَّبِّ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَعِلْمِهِ، وَحِكْمَتِهِ، وَرَحْمَتِهِ، وَرُبُوبِيَّتِهِ‏.‏ تَعَالَى عَنْ قَوْلِ الْجَاحِدِينَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

فَوَازِنْ بَيْنَ قَوْلِ هَؤُلَاءِ، وَقَوْلِ إِخْوَانِهِمْ مِنَ الرَّافِضَةِ، تَجِدِ الْقَوْلَيْنِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

رَضِيعَيْ لِبَانِ ثَدْيِ أُمٍّ تَقَاسَمَا *** بِأَسْحَمَ دَاجٍ عَوْضُ لَا تَتَفَرَّقُ

وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ قَالَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعَذِّبَ أَوْلِيَاءَهُ، وَمَنْ لَمْ يَعْصِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ الْجَحِيمِ، وَيُنَعِّمَ أَعْدَاءَهُ وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَيُدْخِلَهُمْ دَارَ النَّعِيمِ، وَأَنَّ كِلَا الْأَمْرَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِ سَوَاءٌ، وَإِنَّمَا الْخَبَرُ الْمَحْضُ جَاءَ عَنْهُ بِخِلَافِ ذَلِكَ، فَمَعْنَاهُ لِلْخَبَرِ لَا لِمُخَالَفَةِ حِكْمَتِهِ وَعَدْلِهِ‏.‏

وَقَدْ أَنْكَرَ سُبْحَانَهُ فِي كِتَابِهِ عَلَى مَنْ جَوَّزَ عَلَيْهِ ذَلِكَ غَايَةَ الْإِنْكَارِ، وَجَعَلَ الْحُكْمَ بِهِ مِنْ أَسْوَأِ الْأَحْكَامِ‏.‏

قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ ص‏:‏ 27 - 28‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْجَاثِيَةِ‏:‏21 - 22‏]‏‏.‏

وَقَالَ‏:‏ ‏{‏أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْقَلَمِ‏:‏ 35 - 36‏]‏ وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ زَعَمَ أَنَّهُ لَا يُحْيِي الْمَوْتَى، وَلَا يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، وَلَا يَجْمَعُ خَلْقَهُ لِيَوْمٍ يُجَازِي فِيهِ الْمُحْسِنَ بِإِحْسَانِهِ وَالْمُسِيءَ بِإِسَاءَتِهِ، وَيَأْخُذُ لِلْمَظْلُومِ حَقَّهُ مِنْ ظَالِمِهِ، وَيُكْرِمُ الْمُتَحَمِّلِينَ الْمَشَاقَّ فِي هَذِهِ الدَّارِ مِنْ أَجْلِهِ وَفِي مَرْضَاتِهِ بِأَفْضَلِ كَرَامَتِهِ، وَيُبَيِّنُ لِخَلْقِهِ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ، وَيَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ‏.‏

وَكَذَلِكَ لَمْ يَقْدِرْهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَانَ عَلَيْهِ أَمْرُهُ فَعَصَاهُ، وَنَهْيُهُ فَارْتَكَبَهُ، وَحَقُّهُ فَضَيَّعَهُ، وَذِكْرُهُ فَأَهْمَلَهُ، وَغَفَلَ قَلْبُهُ عَنْهُ، وَكَانَ هَوَاهُ آثَرَ عِنْدَهُ مِنْ طَلَبِ رِضَاهُ، وَطَاعَةُ الْمَخْلُوقِ أَهَمَّ مِنْ طَاعَتِهِ، فَلِلَّهِ الْفَضْلَةُ مِنْ قَلْبِهِ وَقَوْلِهِ وَعَمَلِهِ، هَوَاهُ الْمُقَدَّمُ فِي ذَلِكَ لِأَنَّهُ الْمُهِمُّ عِنْدَهُ، يَسْتَخِفُّ بِنَظَرِ اللَّهِ إِلَيْهِ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَيْهِ بِكُلِّ قَلْبِهِ وَجَوَارِحِهِ، وَيَسْتَحِي مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَحِي مِنَ اللَّهِ، وَيَخْشَى النَّاسَ وَلَا يَخْشَى اللَّهَ، وَيُعَامِلُ الْخَلْقَ بِأَفْضَلِ مَا يَقْدِرُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَامَلَ اللَّهَ عَامَلَهُ بِأَهْوَنِ مَا عِنْدَهُ وَأَحْقَرِهِ، وَإِنْ قَامَ فِي خِدْمَةِ مَنْ يُحِبُّهُ مِنَ الْبَشَرِ قَامَ بِالْجِدِّ وَالِاجْتِهَادِ وَبَذْلِ النَّصِيحَةِ، وَقَدْ أَفْرَغَ لَهُ قَلْبَهُ وَجَوَارِحَهُ، وَقَدَّمَهُ عَلَى الْكَثِيرِ مِنْ مَصَالِحِهِ، حَتَّى إِذَا قَامَ فِي حَقِّ رَبِّهِ - إِنْ سَاعَدَ الْقَدَرُ - قَامَ قِيَامًا لَا يَرْضَاهُ مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقٍ مِثْلِهِ، وَبَذَلَ لَهُ مِنْ مَالِهِ مَا يَسْتَحِي أَنْ يُوَاجِهَ بِهِ مَخْلُوقًا مِثْلَهُ، فَهَلْ قَدَرَ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ هَذَا وَصْفُهُ‏؟‏

وَهَلْ قَدَرَهُ حَقَّ قَدْرِهِ مَنْ شَارَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ عَدُوِّهِ فِي مَحْضِ حَقِّهِ مِنَ الْإِجْلَالِ وَالتَّعْظِيمِ وَالطَّاعَةِ وَالذُّلِّ وَالْخُضُوعِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ‏؟‏ فَلَوْ جَعَلَ لَهُ مِنْ أَقْرَبِ الْخَلْقِ إِلَيْهِ شَرِيكًا فِي ذَلِكَ لَكَانَ ذَلِكَ جَرَاءَةً وَتَوَثُّبًا عَلَى مَحْضِ حَقِّهِ وَاسْتِهَانَةً بِهِ وَتَشْرِيكًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي وَلَا يَصْلُحُ إِلَّا لَهُ سُبْحَانَهُ، فَكَيْفَ وَإِنَّمَا شَرَكَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غَيْرِهِ أَبْغَضَ الْخَلْقِ إِلَيْهِ، وَأَهْوَنَهُمْ عَلَيْهِ، وَأَمْقَتَهُمْ عِنْدَهُ، وَهُوَ عَدُوُّهُ عَلَى الْحَقِيقَةِ‏؟‏ فَإِنَّهُ مَا عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِلَّا الشَّيْطَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ يس‏:‏ 60 - 61‏]‏‏.‏

وَلَمَّا عَبَدَ الْمُشْرِكُونَ الْمَلَائِكَةَ بِزَعْمِهِمْ وَقَعَتْ عِبَادَتُهُمْ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِلشَّيَاطِينِ، وَهُمْ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ‏.‏

كَمَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ سَبَأٍ‏:‏ 40 - 41‏]‏‏.‏

فَالشَّيْطَانُ يَدْعُو الْمُشْرِكَ إِلَى عِبَادَتِهِ، وَيُوهِمُهُمْ أَنَّهُ مَلَكٌ، وَكَذَلِكَ عُبَّادُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالْكَوَاكِبِ، وَهِيَ الَّتِي تُخَاطِبُهُمْ، وَتَقْضِي لَهُمُ الْحَوَائِجَ، وَلِهَذَا إِذَا طَلَعَتِ الشَّمْسُ قَارَنَهَا الشَّيْطَانُ، فَيَسْجُدُ لَهَا الْكُفَّارُ، فَيَقَعُ سُجُودُهُمْ لَهُ، وَكَذَلِكَ عِنْدَ غُرُوبِهَا، وَكَذَلِكَ مَنْ عَبَدَ الْمَسِيحَ وَأُمَّهُ لَمْ يَعْبُدْهُمَا وَإِنَّمَا عَبَدَ الشَّيْطَانَ‏.‏

فَإِنَّهُ يَزْعُمُ أَنَّهُ يَعْبُدُ مَنْ أَمَرَهُ بِعِبَادَتِهِ وَعِبَادَةِ أُمِّهِ، وَرَضِيَهَا لَهُمْ وَأَمَرَهُمْ بِهَا، وَهَذَا هُوَ الشَّيْطَانُ الرَّجِيمُ، لَا عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، فَنَزَلَ هَذَا كُلُّهُ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ‏}‏‏.‏

فَمَا عَبَدَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي آدَمَ غَيْرَ اللَّهِ كَائِنًا مَنْ كَانَ إِلَّا وَقَعَتْ عِبَادَتُهُ لِلشَّيْطَانِ، فَيَسْتَمْتِعُ الْعَابِدُ بِالْمَعْبُودِ فِي حُصُولِ غَرَضِهِ، وَيَسْتَمْتِعُ الْمَعْبُودُ بِالْعَابِدِ فِي تَعْظِيمِهِ لَهُ، وَإِشْرَاكِهِ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ غَايَةُ رِضَا الشَّيْطَانِ، وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ‏}‏ أَيْ‏:‏ مِنْ إِغْوَائِهِمْ وَإِضْلَالِهِمْ‏.‏ ‏{‏وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 128‏]‏‏.‏

فَهَذِهِ إِشَارَةٌ لَطِيفَةٌ إِلَى السِّرِّ الَّذِي لِأَجْلِهِ كَانَ الشِّرْكُ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَأَنَّهُ لَا يَغْفِرُهُ بِغَيْرِ التَّوْبَةِ مِنْهُ، وَأَنَّهُ يُوجِبُ الْخُلُودَ فِي الْعَذَابِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ تَحْرِيمُهُ وَقُبْحُهُ بِمُجَرَّدِ النَّهْيِ عَنْهُ، بَلْ يَسْتَحِيلُ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يَشْرَعَ لِعِبَادِهِ عِبَادَةَ إِلَهٍ غَيْرِهِ، كَمَا يَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ مَا يُنَاقِضُ أَوْصَافَ كَمَالِهِ، وَنُعُوتَ جَلَالِهِ، وَكَيْفَ يُظَنُّ بِالْمُنْفَرِدِ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَالْإِلَهِيَّةِ وَالْعَظْمَةِ وَالْإِجْلَالِ أَنْ يَأْذَنَ فِي مُشَارَكَتِهِ فِي ذَلِكَ، أَوْ يَرْضَى بِهِ‏؟‏ تَعَالَى اللَّهُ عَنْ ذَلِكَ عُلُوًّا كَبِيرًا‏.‏

فَصْلٌ الشِّرْكُ وَالْكِبْرُ

فَلَمَّا كَانَ الشِّرْكُ أَكْبَرَ شَيْءٍ مُنَافَاةً لِلْأَمْرِ الَّذِي خَلَقَ اللَّهُ لَهُ الْخَلْقَ، وَأَمَرَ لِأَجْلِهِ بِالْأَمْرِ، كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

وَكَذَلِكَ الْكِبْرُ وَتَوَابِعُهُ كَمَا تَقَدَّمَ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْخَلْقَ وَأَنْزَلَ الْكِتَابَ لِتَكُونَ الطَّاعَةُ لَهُ وَحْدَهُ، وَالشِّرْكُ وَالْكِبْرُ يُنَافِيَانِ ذَلِكَ‏.‏

وَلِذَلِكَ حَرَّمَ اللَّهُ الْجَنَّةَ عَلَى أَهْلِ الشِّرْكِ وَالْكِبْرِ، فَلَا يَدْخُلُهَا مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ‏.‏

فَصْلٌ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ

ويَلِي ذَلِكَ فِي كِبَرِ الْمَفْسَدَةِ‏:‏ الْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَوَصْفُهُ بِضِدِّ مَا وَصَفَ بِهِ نَفْسَهُ وَوَصَفَهُ بِهِ رَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ فَهَذَا أَشَدُّ شَيْءٍ مُنَاقَضَةً وَمُنَافَاةً لِكَمَالِ مَنْ لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ، وَقَدْحٌ فِي نَفْسِ الرُّبُوبِيَّةِ وَخَصَائِصِ الرَّبِّ، فَإِنْ صَدَرَ ذَلِكَ عَنْ عِلْمٍ فَهُوَ عِنَادٌ أَقْبَحُ مِنَ الشِّرْكِ، وَأَعْظَمُ إِثْمًا عِنْدَ اللَّهِ‏.‏

فَإِنَّ الْمُشْرِكَ الْمُقِرَّ بِصِفَاتِ الرَّبِّ خَيْرٌ مِنَ الْمُعَطِّلِ الْجَاحِدِ لِصِفَاتِ كَمَالِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ أَقَرَّ لِمَلِكٍ بِالْمُلْكِ، وَلَمْ يَجْحَدْ مُلْكَهُ وَلَا الصِّفَاتِ الَّتِي اسْتَحَقَّ بِهَا الْمُلْكَ، لَكِنْ جَعَلَ مَعَهُ شَرِيكًا فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، يُقَرِّبُهُ إِلَيْهِ، خَيْرٌ مِمَّنْ جَحَدَ صِفَاتِ الْمَلِكِ وَمَا يَكُونُ بِهِ مَلِكًا، وَهَذَا أَمْرٌ مُسْتَقِرٌّ فِي سَائِرِ الْفِطَرِ وَالْعُقُولِ‏.‏

فَأَيْنَ الْقَدْحُ فِي صِفَاتِ الْكَمَالِ وَالْجَحْدِ لَهَا، مِنْ عِبَادَةِ وَاسِطَةٍ بَيْنَ الْمَعْبُودِ الْحَقِّ وَبَيْنَ الْعَابِدِ، يَتَقَرَّبُ إِلَيْهِ بِعِبَادَةِ تِلْكَ الْوَاسِطَةِ إِعْظَامًا لَهُ وَإِجْلَالًا‏؟‏

فَدَاءُ التَّعْطِيلِ هَذَا الدَّاءُ الْعُضَالُ الَّذِي لَا دَوَاءَ لَهُ، وَلِهَذَا حَكَى اللَّهُ عَنْ إِمَامِ الْمُعَطِّلَةِ فِرْعَوْنَ، أَنَّهُ أَنْكَرَ عَلَى مُوسَى مَا أَخْبَرَ بِهِ مِنْ أَنَّ رَبَّهُ فَوْقَ السَّمَاوَاتِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِرٍ‏:‏ 36 - 37‏]‏‏.‏

وَاحْتَجَّ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيُّ فِي كُتُبِهِ عَلَى الْمُعَطِّلَةِ بِهَذِهِ الْآيَةِ‏.‏

وَلَقَدْ ذَكَرْنَا لَفْظَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْكِتَابِ‏.‏ وَالْقَوْلُ عَلَى اللَّهِ بِلَا عِلْمٍ وَالشِّرْكُ مُتَلَازِمَانِ‏.‏ وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْبِدَعُ الْمُضِلَّةُ جَهْلًا بِصِفَاتِ اللَّهِ وَتَكْذِيبًا بِمَا أَخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ وَأَخْبَرَ بِهِ عَنْهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنَادًا وَجَهْلًا - كَانَتْ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَإِنْ قَصُرَتْ عَنِ الْكُفْرِ وَكَانَتْ أَحَبَّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنْ كِبَارِ الذُّنُوبِ‏.‏

كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ الْبِدْعَةُ أَحَبُّ إِلَى إِبْلِيسَ مِنَ الْمَعْصِيَةِ‏:‏ لِأَنَّ الْمَعْصِيَةَ يُتَابُ مِنْهَا وَالْبِدْعَةَ لَا يُتَابُ مِنْهَا‏.‏

وَقَالَ إِبْلِيسُ‏:‏ أَهْلَكْتُ بَنِي آدَمَ بِالذُّنُوبِ وَأَهْلَكُونِي بِالِاسْتِغْفَارِ وَبِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَلَمَّا رَأَيْتُ ذَلِكَ بَثَثْتُ فِيهِمُ الْأَهْوَاءَ، فَهُمْ يُذْنِبُونَ وَلَا يَتُوبُونَ، لِأَنَّهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا‏.‏

وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمُذْنِبَ إِنَّمَا ضَرَرُهُ عَلَى نَفْسِهِ، الْفَرْق بَيْنَ الْمُبْتَدِعِ وَالْمُذْنِبِ وَأَمَّا الْمُبْتَدِعُ فَضَرَرُهُ عَلَى النَّوْعِ، وَفِتْنَةُ الْمُبْتَدِعِ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَفِتْنَةُ الْمُذْنِبِ فِي الشَّهْوَةِ، وَالْمُبْتَدِعُ قَدْ قَعَدَ لِلنَّاسِ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ يَصُدُّهُمْ عَنْهُ، وَالْمُذْنِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ، وَالْمُبْتَدِعُ قَادِحٌ فِي أَوْصَافِ الرَّبِّ وَكَمَالِهِ، وَالْمُذْنِبُ لَيْسَ كَذَلِكَ‏.‏

وَالْمُبْتَدِعُ يَقْطَعُ عَلَى النَّاسِ طَرِيقَ الْآخِرَةِ، وَالْعَاصِي بَطِيءُ السَّيْرِ بِسَبَبِ ذُنُوبِهِ‏.‏

فَصْلٌ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ

ثُمَّ لَمَّا كَانَ الظُّلْمُ وَالْعُدْوَانُ مُنَافِيَيْنِ لِلْعَدْلِ الَّذِي قَامَتْ بِهِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَأَرْسَلَ لَهُ سُبْحَانَهُ رُسُلَهُ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَأَنْزَلَ كُتُبَهُ لِيَقُومَ النَّاسُ بِهِ - كَانَ مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَتْ دَرَجَتُهُ فِي الْعَظَمَةِ بِحَسَبِ مَفْسَدَتِهِ فِي نَفْسِهِ، وَكَانَ قَتْلُ الْإِنْسَانِ وَلَدَهُ الطِّفْلَ الصَّغِيرَ الَّذِي لَا ذَنْبَ لَهُ وَقَدْ جَبَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْقُلُوبَ عَلَى مَحَبَّتِهِ وَرَحْمَتِهِ وَعَطْفِهَا عَلَيْهِمْ، وَخَصَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ ذَلِكَ بِمَزِيَّةٍ ظَاهِرَةٍ، فَقَتْلُهُ خَشْيَةَ أَنْ يُشَارِكَهُ فِي مَطْعَمِهِ وَمَشْرَبِهِ وَمَالِهِ، مِنْ أَقْبَحِ الظُّلْمِ وَأَشَدِّهِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُهُ أَبَوَيْهِ اللَّذَيْنِ كَانَا سَبَبَ وُجُودِهِ، وَكَذَلِكَ قَتْلُهُ ذَا رَحِمِهِ‏.‏

وَتَتَفَاوَتُ دَرَجَاتُ الْقَتْلِ بِحَسَبِ قُبْحِهِ وَاسْتِحْقَاقِ مَنْ قَتَلَهُ لِلْسَعْيِ فِي إِبْقَائِهِ وَنَصِيحَتِهِ‏.‏

وَلِهَذَا كَانَ أَشَدَّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ قَتَلَهُ نَبِيٌّ‏.‏

وَيَلِيهِ مَنْ قَتَلَ إِمَامًا عَادِلًا يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْقِسْطِ، وَيَدْعُوهُمْ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَيَنْصَحُهُمْ فِي دِينِهِمْ، وَقَدْ جَعَلَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ جَزَاءَ قَتْلِ النَّفْسِ الْمُؤْمِنَةِ عَمْدًا الْخُلُودَ فِي النَّارِ، وَغَضَبَ الْجَبَّارِ وَلَعْنَتَهُ، وَإِعْدَادَ الْعَذَابِ الْعَظِيمِ لَهُ، هَذَا مُوجِبُ قَتْلِ الْمُؤْمِنِ عَمْدًا مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ‏.‏

وَلَا خِلَافَ أَنَّ الْإِسْلَامَ الْوَاقِعَ بَعْدَ الْقَتْلِ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا مَانِعٌ مِنْ نُفُوذِ ذَلِكَ الْجَزَاءِ، وَهَلْ تَمْنَعُ تَوْبَةُ الْمُسْلِمِ مِنْهُ بَعْدَ وُقُوعِهِ فِيهِ‏؟‏ قَوْلَانِ لِلسَّلَفِ وَالْخَلَفِ، وَهُمَا رِوَايَتَانِ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ‏.‏

تَوْبَةُ الْقَاتِلِ

وَالَّذِينَ قَالُوا‏:‏ لَا تَمْنَعُ التَّوْبَةُ مِنْ نُفُوذِهِ‏.‏ رَأَوْا أَنَّهُ حَقٌّ لِآدَمِيٍّ لَمْ يَسْتَوْفِهِ فِي دَارِ الدُّنْيَا وَخَرَجَ مِنْهُ بِظُلَامَتِهِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُسْتَوْفَى فِي دَارِ الْعَدْلِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَمَا اسْتَوْفَاهُ الْوَارِثُ إِنَّمَا اسْتَوْفَى مَحْضَ حَقِّهِ الَّذِي خَيَّرَهُ اللَّهُ بَيْنَ اسْتِيفَائِهِ وَالْعَفْوِ عَنْهُ، وَمَا يَنْفَعُ الْمَقْتُولَ مِنِ اسْتِيفَاءِ وَارِثِهِ‏؟‏ وَأَيُّ اسْتِدْرَاكٍ لِظُلَامَتِهِ حَصَلَ بِاسْتِيفَاءِ وَارِثِهِ‏؟‏

وَهَذَا أَصَحُّ الْقَوْلَيْنِ فِي الْمَسْأَلَةِ‏:‏ أَنَّ حَقَّ الْمَقْتُولِ لَا يَسْقُطُ بِاسْتِيفَاءِ الْوَارِثِ وَهُمَا وَجْهَانِ لِأَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِمَا‏.‏

وَرَأَتْ طَائِفَةٌ أَنَّهُ يَسْقُطُ بِالتَّوْبَةِ وَاسْتِيفَاءِ الْوَارِثِ، فَإِنَّ التَّوْبَةَ تَهْدِمُ مَا قَبْلَهَا، وَالذَّنْبُ الَّذِي جَنَاهُ قَدْ أُقِيمَ عَلَيْهِ حَدُّهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ تَمْحُو أَثَرَ الْكُفْرِ وَالسِّحْرِ، وَهُمَا أَعْظَمُ إِثْمًا مِنَ الْقَتْلِ، فَكَيْفَ تَقْصُرُ عَنْ مَحْوِ أَثَرِ الْقَتْلِ‏؟‏ وَقَدْ قَبِلَ اللَّهُ تَوْبَةَ الْكُفَّارِ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَجَعَلَهُمْ مِنْ خِيَارِ عِبَادِهِ، وَدَعَا الَّذِينَ أَحْرَقُوا أَوْلِيَاءَهُ وَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ إِلَى التَّوْبَةِ، وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزُّمَرِ‏:‏ 53‏]‏ فَهَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِ، وَهِيَ تَتَنَاوَلُ الْكُفْرَ وَمَا دُونَهُ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَكَيْفَ يَتُوبُ الْعَبْدُ مِنَ الذَّنْبِ وَيُعَاقَبُ عَلَيْهِ بَعْدَ التَّوْبَةِ‏؟‏ هَذَا مَعْلُومٌ انْتِفَاؤُهُ فِي شَرْعِ اللَّهِ وَجَزَائِهِ‏.‏

قَالُوا‏:‏ وَتَوْبَةُ هَذَا الْمُذْنِبِ تَسْلِيمُ نَفْسِهِ، وَلَا يُمْكِنُ تَسْلِيمُهَا إِلَى الْمَقْتُولِ، فَأَقَامَ الشَّارِعُ وَلِيَّهُ مَقَامَهُ وَجَعَلَ تَسْلِيمَ النَّفْسِ إِلَيْهِ كَتَسْلِيمِهَا إِلَى الْمَقْتُولِ، بِمَنْزِلَةِ تَسْلِيمِ الْمَالِ الَّذِي عَلَيْهِ لِوَارِثِهِ، فَإِنَّهُ يَقُومُ مَقَامَ تَسْلِيمِهِ لِلْمُوَرِّثِ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ الْقَتْلَ يَتَعَلَّقُ بِهِ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ‏:‏ حَقٌّ لِلَّهِ وَحَقٌّ لِلْمَقْتُولِ، وَحَقٌّ لِلْوَلِيِّ، فَإِذَا سَلَّمَ الْقَاتِلُ نَفْسَهُ طَوْعًا وَاخْتِيَارًا إِلَى الْوَلِيِّ نَدَمًا عَلَى مَا فَعَلَ، وَخَوْفًا مِنَ اللَّهِ، وَتَوْبَةً نَصُوحًا، سَقَطَ حَقُّ اللَّهِ بِالتَّوْبَةِ، وَحَقُّ الْوَلِيِّ بِالِاسْتِيفَاءِ أَوِ الصُّلْحِ أَوِ الْعَفْوِ، وَبَقِيَ حَقُّ الْمَقْتُولِ يُعَوِّضُهُ اللَّهُ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَنْ عَبْدِهِ التَّائِبِ الْمُحْسِنِ، وَيُصْلِحُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، فَلَا يَبْطُلُ حَقُّ هَذَا، وَلَا تَبْطُلُ تَوْبَةُ هَذَا‏.‏

التَّوْبَةُ مِنَ الْحُقُوقِ الْمَالِيَّةِ

وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْمَالِ‏:‏ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ إِذَا أَدَّى مَا عَلَيْهِ مِنَ الْمَالِ إِلَى الْوَارِثِ بَرِئَ مِنْ عُهْدَتِهِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا بَرِئَ مِنْهَا فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ‏:‏ بَلِ الْمُطَالَبَةُ لِمَنْ ظَلَمَهُ بِأَخْذِهِ بَاقِيَةٌ عَلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَدْرِكْ ظُلَامَتَهُ بِأَخْذِ وَارِثِهِ لَهُ، فَإِنَّهُ مَنَعَهُ مِنِ انْتِفَاعِهِ بِهِ فِي طُولِ حَيَاتِهِ، وَمَاتَ وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهِ، وَهَذَا ظُلْمٌ لَمْ يَسْتَدْرِكْهُ، وَإِنَّمَا يَنْتَفِعُ بِهِ غَيْرُهُ بِاسْتِدْرَاكِهِ، وَبَنَوْا عَلَى هَذَا أَنَّهُ لَوِ انْتَقَلَ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى وَاحِدٍ، وَتَعَدَّدَ الْوَرَثَةُ، كَانَتِ الْمُطَالِبَةُ لِلْجَمِيعِ؛ لِأَنَّهُ حَقٌّ كَانَ يَجِبُ عَلَيْهِ دَفْعُهُ إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عِنْدَ كَوْنِهِ هُوَ الْوَارِثَ، وَهَذَا قَوْلُ طَائِفَةٍ مِنْ أَصْحَابِ مَالِكٍ وَأَحْمَدَ‏.‏

وَفَصَلَ شَيْخُنَا - رَحِمَهُ اللَّهُ - بَيْنَ الطَّائِفَتَيْنِ، فَقَالَ‏:‏ إِنْ تَمَكَّنَ الْمَوْرُوثُ مِنْ أَخْذِ مَالِهِ وَالْمُطَالَبَةِ بِهِ فَلَمْ يَأْخُذْهُ حَتَّى مَاتَ، صَارَتِ الْمُطَالَبَةُ بِهِ لِلْوَارِثِ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا هِيَ كَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ طَلَبِهِ وَأَخْذِهِ، بَلْ حَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ ظُلْمًا وَعُدْوَانًا، فَالطَّلَبُ لَهُ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

وَهَذَا التَّفْصِيلُ مِنْ أَحْسَنِ مَا يُقَالُ، فَإِنَّ الْمَالَ إِذَا اسْتَهْلَكَهُ الظَّالِمُ عَلَى الْمَوْرُوثِ، وَتَعَذَّرَ أَخْذُهُ مِنْهُ، صَارَ بِمَنْزِلَةِ عَبْدِهِ الَّذِي قَتَلَهُ قَاتِلٌ، وَدَارِهِ الَّتِي أَحْرَقَهَا غَيْرُهُ، وَطَعَامِهِ وَشَرَابِهِ الَّذِي أَكَلَهُ وَشَرِبَهُ غَيْرُهُ، وَمِثْلُ هَذَا إِنَّمَا تَلَفَ عَلَى الْمَوْرُوثِ لَا عَلَى الْوَارِثِ، فَحَقُّ الْمُطَالَبَةِ لِمَنْ تَلَفَ عَلَى مِلْكِهِ‏.‏ وَيَبْقَى أَنْ يُقَالَ‏:‏ فَإِذَا كَانَ الْمَالُ عَقَارًا أَوْ أَرْضًا أَوْ أَعْيَانًا قَائِمَةً بَاقِيَةً بَعْدَ الْمَوْتِ فَهِيَ مِلْكُ الْوَارِثِ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ دَفْعُهَا إِلَيْهِ كُلَّ وَقْتٍ، فَإِذَا لَمْ يَدْفَعْ إِلَيْهِ أَعْيَانَ مَالِهِ اسْتَحَقَّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا يَسْتَحِقُّ الْمُطَالَبَةَ بِهَا فِي الدُّنْيَا‏.‏

وَهَذَا سُؤَالٌ قَوِيٌّ لَا مَخْلَصَ مِنْهُ إِلَّا بِأَنْ يُقَالَ‏:‏ الْمُطَالِبَةُ لَهُمَا جَمِيعًا، كَمَا لَوْ غَصَبَ مَالًا مُشْتَرَكًا بَيْنَ جَمَاعَةٍ؛ اسْتَحَقَّ كُلٌّ مِنْهُمُ الْمُطَالَبَةَ لِحَقِّهِ مِنْهُ، كَمَا لَوِ اسْتَوْلَى عَلَى وَقْفٍ مُرَتَّبٍ عَلَى بُطُونٍ، فَأَبْطَلَ حَقَّ الْبُطُونِ كُلِّهِمْ مِنْهُ، كَانَتِ الْمُطَالَبَةُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِجَمِيعِهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِهَا مِنْ بَعْضٍ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ‏.‏

فَصْلٌ جَرِيمَةُ الْقَتْلِ

ولَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ الْقَتْلِ هَذِهِ الْمَفْسَدَةَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَائِدَةِ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

وَقَدْ أَشْكَلَ فَهْمُ هَذَا عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَقَالَ‏:‏ مَعْلُومٌ أَنَّ إِثْمَ قَاتِلِ مِائَةٍ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ إِثْمِ قَاتِلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ، وَإِنَّمَا أَتَوْهُ مِنْ ظَنِّهِمْ أَنَّ التَّشْبِيهَ فِي مِقْدَارِ الْإِثْمِ وَالْعُقُوبَةِ، وَاللَّفْظُ لَمْ يَدُلَّ عَلَى هَذَا، وَلَا يَلْزَمُ مِنْ تَشْبِيهِ الشَّيْءِ بِالشَّيْءِ أَخْذُهُ بِجَمِيعِ أَحْكَامِهِ‏.‏

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النَّازِعَاتِ‏:‏ 46‏]‏‏.‏

وَقَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَحْقَافِ‏:‏ 35‏]‏‏.‏

وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ أَنَّ لُبْثَهُمْ فِي الدُّنْيَا إِنَّمَا كَانَ هَذَا الْمِقْدَارَ‏.‏

وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ مَنْ صَلَّى الْعِشَاءَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَمَنْ صَلَّى الْفَجْرَ فِي جَمَاعَةٍ فَكَأَنَّمَا قَامَ اللَّيْلَ كُلَّهُ»، أَيْ‏:‏ مَعَ الْعِشَاءِ كَمَا جَاءَ فِي لَفْظٍ آخَرَ، وَأَصْرَحُ مِنْ هَذَا قَوْلُهُ‏:‏ مَنْ صَامَ رَمَضَانَ وَأَتْبَعَهُ بِسِتٍّ مِنْ شَوَّالٍ فَكَأَنَّمَا صَامَ الدَّهْرَ»، وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ مَنْ قَرَأَ‏:‏ ‏{‏قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ‏}‏ فَكَأَنَّمَا قَرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ»، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ثَوَابَ فَاعِلِ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ لَمْ يَبْلُغْ ثَوَابَ الْمُشَبَّهِ بِهِ، فَيَكُونُ قَدْرُهُمَا سَوَاءً، وَلَوْ كَانَ قَدْرُ الثَّوَابِ سَوَاءً لَمْ يَكُنْ لِمُصَلِّي الْعِشَاءِ وَالْفَجْرِ جَمَاعَةً فِي قِيَامِ اللَّيْلِ مَنْفَعَةٌ غَيْرُ التَّعَبِ وَالنَّصَبِ، وَمَا أُوتِيَ أَحَدٌ - بَعْدَ الْإِيمَانِ - أَفْضَلَ مِنَ الْفَهْمِ عَنِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ‏.‏ وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‏.‏

فَإِنْ قِيلَ‏:‏ فَفِي أَيِّ شَيْءٍ وَقَعَ التَّشْبِيهُ بَيْنَ قَاتِلِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَقَاتِلِ النَّاسِ جَمِيعًا‏؟‏

قِيلَ‏:‏ فِي وُجُوهٍ مُتَعَدِّدَةٍ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ أَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا عَاصٍ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُخَالِفٌ لِأَمْرِهِ مُتَعَرِّضٌ لِعُقُوبَتِهِ، وَكُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَلَعْنَتِهِ، وَاسْتِحْقَاقِ الْخُلُودِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، وَإِعْدَادِهِ عَذَابًا عَظِيمًا، وَإِنَّمَا التَّفَاوُتُ فِي دَرَجَاتِ الْعَذَابِ، فَلَيْسَ إِثْمُ مَنْ قَتَلَ نَبِيًّا أَوْ إِمَامًا عَادِلًا أَوْ عَالِمًا يَأْمُرُ النَّاسَ بِالْقِسْطِ، كَإِثْمِ مَنْ قَتَلَ مَنْ لَا مَزِيَّةَ لَهُ مِنْ آحَادِ النَّاسِ‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي اسْتِحْقَاقِ إِزْهَاقِ النَّفْسِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُمَا سَوَاءٌ فِي الْجَرَاءَةِ عَلَى سَفْكِ الدَّمِ الْحَرَامِ، فَإِنَّ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ اسْتِحْقَاقٍ، بَلْ لِمُجَرَّدِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ، أَوْ لِأَخْذِ مَالِهِ‏:‏ فَإِنَّهُ يَجْتَرِئُ عَلَى قَتْلِ كُلِّ مَنْ ظَفَرَ بِهِ وَأَمْكَنَهُ قَتْلُهُ، فَهُوَ مُعَادٍ لِلنَّوْعِ الْإِنْسَانِيِّ‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّهُ يُسَمَّى قَاتِلًا أَوْ فَاسِقًا أَوْ ظَالِمًا أَوْ عَاصِيًا بِقَتْلِهِ وَاحِدًا، كَمَا يُسَمَّى كَذَلِكَ بِقَتْلِهِ النَّاسَ جَمِيعًا‏.‏

وَمِنْهَا‏:‏ أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ جَعَلَ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَوَاصُلِهِمْ كَالْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالْحُمَّى وَالسَّهَرِ، فَإِذَا أَتْلَفَ الْقَاتِلُ مِنْ هَذَا الْجَسَدِ عُضْوًا، فَكَأَنَّمَا أَتْلَفَ سَائِرَ الْجَسَدِ، وَآلَمَ جَمِيعَ أَعْضَائِهِ، فَمَنْ آذَى مُؤْمِنًا وَاحِدًا فَكَأَنَّمَا آذَى جَمِيعَ الْمُؤْمِنِينَ، وَفِي أَذَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ أَذَى جَمِيعِ النَّاسِ، فَإِنَّ اللَّهَ إِنَّمَا يُدَافِعُ عَنِ النَّاسِ بِالْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ بَيْنَهُمْ، فَإِيذَاءُ الْخَفِيرِ إِيذَاءُ الْمَخْفُورِ، وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا بِغَيْرِ حَقٍّ، إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ»‏.‏

وَلَمْ يَجِئْ هَذَا الْوَعِيدُ فِي أَوَّلِ زَانٍ وَلَا أَوَّلِ سَارِقٍ وَلَا أَوَّلِ شَارِبِ مُسْكِرٍ، وَإِنْ كَانَ أَوَّلُ الْمُشْرِكِينَ قَدْ يَكُونُ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ أَوَّلِ قَاتِلٍ؛ لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الشِّرْكَ؛ وَلِهَذَا رَأَى النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَمْرَو بْنَ لَحْيٍ الْخُزَاعِيَّ يُعَذَّبُ أَعْظَمَ الْعَذَابِ فِي النَّارِ، لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ غَيَّرَ دِينَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ‏.‏

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْبَقَرَةِ‏:‏ 41‏]‏‏.‏

أَيْ فَيَقْتَدِي بِكُمْ مَنْ بَعْدَكُمْ، فَيَكُونُ إِثْمُ كَفْرِهِ عَلَيْكُمْ، وَكَذَلِكَ حُكْمُ مَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَاتُّبِعَ عَلَيْهَا‏.‏

وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَجِيءُ الْمَقْتُولُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَاصِيَتُهُ وَرَأْسُهُ بِيَدِهِ، وَأَوْدَاجُهُ تَشْخَبُ دَمًا، يَقُولُ‏:‏ يَا رَبِّ سَلْ هَذَا فِيمَ قَتَلَنِي‏؟‏» فَذَكَرُوا لِابْنِ عَبَّاسٍ التَّوْبَةَ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ‏:‏ ‏{‏وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 93‏]‏‏.‏

ثُمَّ قَالَ‏:‏ مَا نُسِخَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَلَا بُدِّلَتْ، وَأَنَّى لَهُ التَّوْبَةُ‏؟‏ قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَفِيهِ أَيْضًا عَنْ نَافِعٍ قَالَ‏:‏ نَظَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ يَوْمًا إِلَى الْكَعْبَةِ، فَقَالَ‏:‏ مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ، وَالْمُؤْمِنُ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُ حُرْمَةً مِنْكِ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ‏:‏ أَوَّلُ مَا يُنْتِنُ مِنَ الْإِنْسَانِ بَطْنُهُ، فَمَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لَا يَأْكُلَ إِلَّا طَيِّبًا فَلْيَفْعَلْ، وَمَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يَحُولَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ مِلْءُ كَفٍّ مِنْ دَمٍ أَهْرَاقَهُ فَلْيَفْعَلْ»‏.‏

وَفِي صَحِيحِهِ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ لَا يَزَالُ الْمُؤْمِنُ فِي فُسْحَةٍ مِنْ دِينِهِ مَا لَمْ يُصِبْ دَمًا حَرَامًا» وَذَكَرَ الْبُخَارِيُّ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ‏:‏ مِنْ وَرَطَاتِ الْأُمُورِ الَّتِي لَا مَخْرَجَ لِمَنْ أَوْقَعَ نَفْسَهُ فِيهَا‏:‏ سَفْكُ الدَّمِ الْحَرَامِ بِغَيْرِ حِلِّهِ»‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ‏:‏ سِبَابُ الْمُؤْمِنِ فُسُوقٌ وَقِتَالُهُ كُفْرٌ»

وَفِيهِمَا أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»

وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»‏.‏ هَذِهِ عُقُوبَةُ قَاتِلِ عَدُوِّ اللَّهِ إِذَا كَانَ فِي عَهْدِهِ وَأَمَانِهِ، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ قَاتِلِ عَبْدِهِ الْمُؤْمِنِ‏؟‏ وَإِذَا كَانَتِ امْرَأَةٌ قَدْ دَخَلَتِ النَّارَ فِي هِرَّةٍ حَبَسَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ جُوعًا وَعَطَشًا، فَرَآهَا النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي النَّارِ وَالْهِرَّةُ تَخْدِشُهَا فِي وَجْهِهَا وَصَدْرِهَا، فَكَيْفَ عُقُوبَةُ مَنْ حَبَسَ مُؤْمِنًا حَتَّى مَاتَ بِغَيْرِ جُرْمٍ‏؟‏ وَفِي بَعْضِ السُّنَنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ مُؤْمِنٍ بِغَيْرِ حَقٍّ»‏.‏

فَصْلٌ جَرِيمَةُ الزِّنَى

ولَمَّا كَانَتْ مَفْسَدَةُ الزِّنَى مِنْ أَعْظَمِ الْمَفَاسِدِ وَهِيَ مُنَافِيَةٌ لِمَصْلَحَةِ نِظَامِ الْعَالَمِ فِي حِفْظِ الْأَنْسَابِ، وَحِمَايَةِ الْفُرُوجِ، وَصِيَانَةِ الْحُرُمَاتِ، وَتَوَقِّي مَا يُوقِعُ أَعْظَمَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ بَيْنَ النَّاسِ، مِنْ إِفْسَادِ كُلٍّ مِنْهُمُ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ وَبِنْتِهِ وَأُخْتِهِ وَأُمِّهِ، وَفِي ذَلِكَ خَرَابُ الْعَالَمِ، كَانَتْ تَلِي مَفْسَدَةَ الْقَتْلِ فِي الْكِبَرِ، وَلِهَذَا قَرَنَهَا اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِهَا فِي كِتَابِهِ، وَرَسُولُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سُنَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ‏.‏

قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ‏:‏ ‏[‏وَلَا أَعْلَمُ بَعْدَ قَتْلِ النَّفْسِ شَيْئًا أَعْظَمَ مِنَ الزِّنَى‏]‏‏.‏

وَقَدْ أَكَّدَ سُبْحَانَهُ حُرْمَتَهُ بِقَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْفُرْقَانِ‏:‏ 68 - 70‏]‏‏.‏

فَقَرَنَ الزِّنَى بِالشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ، وَجَعَلَ جَزَاءَ ذَلِكَ الْخُلُودَ فِي الْعَذَابِ الْمُضَاعَفِ، مَا لَمْ يَرْفَعِ الْعَبْدُ مُوجِبَ ذَلِكَ بِالتَّوْبَةِ وَالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْإِسْرَاءِ‏:‏ 32‏]‏‏.‏

فَأَخْبَرَ عَنْ فُحْشِهِ فِي نَفْسِهِ، وَهُوَ الْقَبِيحُ الَّذِي قَدْ تَنَاهَى قُبْحُهُ حَتَّى اسْتَقَرَّ فُحْشُهُ فِي الْعُقُولِ حَتَّى عِنْدَ كَثِيرٍ مِنَ الْحَيَوَانِ، كَمَا ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ‏:‏ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ الْأَوْدِيِّ قَالَ‏:‏ رَأَيْتُ فِي الْجَاهِلِيَّةِ قِرْدًا زَنَى بِقِرْدَةٍ، فَاجْتَمَعَ الْقُرُودُ عَلَيْهِمَا فَرَجَمُوهُمَا حَتَّى مَاتَا»‏.‏

ثُمَّ أَخْبَرَ عَنْ غَايَتِهِ بِأَنَّهُ سَاءَ سَبِيلًا فَإِنَّهُ سَبِيلُ هَلَكَةٍ وَبَوَارٍ وَافْتِقَارٍ فِي الدُّنْيَا، وَعَذَابٍ وَخِزْيٍ وَنَكَالٍ فِي الْآخِرَةِ‏.‏

وَلَمَّا كَانَ نِكَاحُ أَزْوَاجِ الْآبَاءِ مِنْ أَقْبَحِهِ خَصَّهُ بِمَزِيدِ ذَمٍّ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النِّسَاءِ‏:‏ 22‏]‏‏.‏

وَعَلَّقَ سُبْحَانَهُ فَلَاحَ الْعَبْدِ عَلَى حِفْظِ فَرْجِهِ مِنْهُ، فَلَا سَبِيلَ إِلَى الْفَلَاحِ بِدُونِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏{‏قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ‏}‏ إِلَى قَوْلِهِ‏:‏ ‏{‏فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمُؤْمِنُونَ‏:‏ 1 - 7‏]‏‏.‏

وَهَذَا يَتَضَمَّنُ ثَلَاثَةَ أُمُورٍ‏:‏ أَنَّ مَنْ لَمْ يَحْفَظْ فَرْجَهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ الْمُفْلِحِينَ، وَأَنَّهُ مِنَ الْمَلُومِينَ، وَمِنَ الْعَادِينَ، فَفَاتَهُ الْفَلَاحُ، وَاسْتَحَقَّ اسْمَ الْعُدْوَانِ، وَوَقَعَ فِي اللَّوْمِ، فَمُقَاسَاةُ أَلَمِ الشَّهْوَةِ وَمُعَانَاتُهَا أَيْسَرُ مِنْ بَعْضِ ذَلِكَ‏.‏

وَنَظِيرُ هَذَا أَنَّهُ ذَمَّ الْإِنْسَانَ، وَأَنَّهُ خُلِقَ هَلُوعًا لَا يَصْبِرُ عَلَى سَرَّاءَ وَلَا ضَرَّاءَ، بَلْ إِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنَعَ وَبَخِلَ، وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزِعَ، إِلَّا مَنِ اسْتَثْنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ النَّاجِينَ مِنْ خَلْقِهِ، فَذَكَرَ مِنْهُمْ‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْمَعَارِجِ‏:‏ 29 - 31‏]‏‏.‏

فَأَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى نَبِيَّهُ أَنْ يَأْمُرَ الْمُؤْمِنِينَ بِغَضِّ أَبْصَارِهِمْ، وَحِفْظِ فُرُوجِهِمْ، وَأَنْ يُعْلِمَهُمْ أَنَّهُ مُشَاهِدٌ لِأَعْمَالِهِمْ، مُطَّلِعٌ عَلَيْهَا، ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِرٍ‏:‏ 19‏]‏‏.‏

وَلَمَّا كَانَ مَبْدَأُ ذَلِكَ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ جُعِلَ الْأَمْرُ بِغَضِّهِ مُقَدَّمًا عَلَى حِفْظِ الْفَرْجِ، فَإِنَّ الْحَوَادِثَ مَبْدَؤُهَا مِنَ الْبَصَرِ، كَمَا أَنَّ مُعْظَمَ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ، فَتَكُونُ نَظْرَةٌ، ثُمَّ تَكُونُ خَطْرَةٌ، ثُمَّ خُطْوَةٌ، ثُمَّ خَطِيئَةٌ‏.‏

وَلِهَذَا قِيلَ‏:‏ مَنْ حَفِظَ هَذِهِ الْأَرْبَعَةَ أَحْرَزَ دِينَهُ‏:‏ اللَّحَظَاتِ، وَالْخَطَرَاتِ، وَاللَّفَظَاتِ، وَالْخُطُوَاتِ‏.‏

فَيَنْبَغِي لِلْعَبْدِ أَنْ يَكُونَ بَوَّابَ نَفْسِهِ عَلَى هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ، وَيُلَازِمَ الرِّبَاطَ عَلَى ثُغُورِهَا، فَمِنْهَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ الْعَدُوُّ، فَيَجُوسُ خِلَالَ الدِّيَارِ وَيُتَبِّرُ مَا عَلَا تَتْبِيرًا‏.‏

فَصْلٌ مَدْخَلُ الْمَعَاصِي

وأَكْثَرُ مَا تَدْخُلُ الْمَعَاصِي عَلَى الْعَبْدِ مِنْ هَذِهِ الْأَبْوَابِ الْأَرْبَعَةِ، فَنَذْكُرُ فِي كُلِّ بَابٍ مِنْهَا فَصْلًا يَلِيقُ بِهِ‏.‏

النَّظْرَةُ‏.‏

فَأَمَّا اللَّحَظَاتُ‏:‏ فَهِيَ رَائِدُ الشَّهْوَةِ وَرَسُولُهَا، وَحِفْظُهَا أَصْلُ حِفْظِ الْفَرْجِ، فَمَنْ أَطْلَقَ بَصَرَهُ أَوْرَدَ نَفْسَهُ مَوَارِدَ الْمُهْلِكَاتِ‏.‏

وَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ لَا تُتْبِعِ النَّظْرَةَ النَّظْرَةَ، فَإِنَّمَا لَكَ الْأُولَى وَلَيْسَتْ لَكَ الْأُخْرَى»

وَفِي الْمُسْنَدِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ النَّظْرَةُ سَهْمٌ مَسْمُومٌ مِنْ سِهَامِ إِبْلِيسَ، فَمَنْ غَضَّ بَصَرَهُ عَنْ مَحَاسِنِ امْرَأَةٍ لِلَّهِ، أَوْرَثَ اللَّهُ قَلْبَهُ حَلَاوَةً إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ» هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ‏.‏

وَغُضُّوا أَبْصَارَكُمْ، وَاحْفَظُوا فُرُوجَكُمْ»، وَإِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ عَلَى الطُّرُقَاتِ، قَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَجَالِسُنَا مَا لَنَا بُدٌّ مِنْهَا، قَالَ‏:‏ فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ، فَأَعْطُوا الطَّرِيقَ حَقَّهُ، قَالُوا‏:‏ وَمَا حَقُّهُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ غَضُّ الْبَصَرِ وَكَفُّ الْأَذَى وَرَدُّ السَّلَامِ»‏.‏

وَالنَّظَرُ أَصْلُ عَامَّةِ الْحَوَادِثِ الَّتِي تُصِيبُ الْإِنْسَانَ، فَالنَّظْرَةُ تُوَلِّدُ خَطْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الْخَطْرَةُ فِكْرَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الْفِكْرَةُ شَهْوَةً، ثُمَّ تُوَلِّدُ الشَّهْوَةُ إِرَادَةً، ثُمَّ تَقْوَى فَتَصِيرُ عَزِيمَةً جَازِمَةً، فَيَقَعُ الْفِعْلُ وَلَا بُدَّ، مَا لَمْ يَمْنَعْ مِنْهُ مَانِعٌ، وَفِي هَذَا قِيلَ‏:‏ الصَّبْرُ عَلَى غَضِّ الْبَصَرِ أَيْسَرُ مِنَ الصَّبْرِ عَلَى أَلَمِ مَا بَعْدَهُ‏.‏

قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

كُلُّ الْحَوَادِثِ مَبْدَاهَا مِنَ النَّظَرِ *** وَمُعْظَمُ النَّارِ مِنْ مُسْتَصْغَرِ الشَّرَرِ

كَمْ نَظْرَةٌ بَلَغَتْ فِي قَلْبِ صَاحِبِهَا *** كَمَبْلَغِ السَّهْمِ بَيْنَ الْقَوْسِ وَالْوَتَرِ

وَالْعَبْدُ مَا دَامَ ذَا طَرْفٍ يُقَلِّبُهُ *** فِي أَعْيُنِ الْعِينِ مَوْقُوفٌ عَلَى الْخَطَرِ

يَسُرُّ مُقْلَتَهُ مَا ضَرَّ مُهْجَتَهُ *** لَا مَرْحَبًا بِسُرُورٍ عَادَ بِالضَّرَرِ

وَمِنْ آفَاتِ النَّظَرِ‏:‏ أَنَّهُ يُورِثُ الْحَسَرَاتِ وَالزَّفَرَاتِ وَالْحَرَقَاتِ، فَيَرَى الْعَبْدُ مَا لَيْسَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَلَا صَابِرًا عَنْهُ، وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْعَذَابِ، أَنْ تَرَى مَا لَا صَبْرَ لَكَ عَنْ بَعْضِهِ، وَلَا قُدْرَةَ عَلَى بَعْضِهِ‏.‏

قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

وَكُنْتُ مَتَى أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِدًا *** لِقَلْبِكَ يَوْمًا أَتْعَبَتْكَ الْمَنَاظِرُ

رَأَيْتَ الَّذِي لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ *** عَلَيْهِ وَلَا عَنْ بَعْضِهِ أَنْتَ صَابِرُ

وَهَذَا الْبَيْتُ يَحْتَاجُ إِلَى شَرْحٍ، وَمُرَادُهُ‏:‏ أَنَّكَ تَرَى مَا لَا تَصْبِرُ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَيْهِ، فَإِنَّ قَوْلَهُ‏:‏ ‏"‏لَا كُلُّهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ‏"‏ نَفْيٌ لِقُدْرَتِهِ عَلَى الْكُلِّ الَّذِي لَا يَنْتَفِي إِلَّا بِنَفْيِ الْقُدْرَةِ عَنْ كُلِّ وَاحِدٍ وَاحِدٍ‏.‏

وَكَمْ مَنْ أَرْسَلَ لَحَظَاتِهِ فَمَا قَلَعَتْ إِلَّا وَهُوَ يَتَشَحَّطُ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا، كَمَا قِيلَ‏:‏

يَا نَاظِرًا مَا أَقْلَعَتْ لَحَظَاتُهُ *** حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلَا

وَلِي مِنْ أَبْيَاتٍ‏:‏

مَلَّ السَّلَامَةَ فَاغْتَدَتْ لَحَظَاتُهُ *** وَقْفًا عَلَى طَلَلٍ يَظُنُّ جَمِيلًا *** مَا زَالَ يُتْبِعُ إِثْرَهُ لَحَظَاتِهِ *** حَتَّى تَشَحَّطَ بَيْنَهُنَّ قَتِيلًا

وَمِنَ الْعَجَبِ‏:‏ أَنَّ لَحْظَةَ النَّاظِرِ سَهْمٌ لَا يَصِلُ إِلَى الْمَنْظُورِ إِلَيْهِ حَتَّى يَتَبَوَّأَ مَكَانًا مِنْ قَلْبِ النَّاظِرِ، وَلِي مِنْ قَصِيدَةٍ‏:‏

يَا رَامِيًا بِسِهَامِ اللَّحْظِ مُجْتَهِدًا *** أَنْتَ الْقَتِيلُ بِمَا تَرْمِي فَلَا تُصِبِ

يَا بَاعِثَ الطَّرْفِ يَرْتَادُ الشِّفَاءَ لَهُ *** احْبِسْ رَسُولَكَ لَا يَأْتِيكَ بِالْعَطَبِ

وَأَعْجَبُ مِنْ ذَلِكَ‏:‏ أَنَّ النَّظْرَةَ تَجْرَحُ الْقَلْبَ جُرْحًا، فَيَتْبَعُهَا جُرْحٌ عَلَى جُرْحٍ، ثُمَّ لَا يَمْنَعُهُ أَلَمُ الْجِرَاحَةِ مِنِ اسْتِدْعَاءِ تَكْرَارِهَا، وَلِي أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى‏:‏

مَا زِلْتَ تُتْبِعُ نَظْرَةً فِي نَظْرَةٍ *** فِي إِثْرِ كُلِّ مَلِيحَةٍ وَمَلِيحِ

وَتَظُنُّ ذَاكَ دَوَاءَ جُرْحِكَ وَهُوَ فِي الْـ *** تـَحْقِيقِ تَجْرِيحٌ عَلَى تَجْرِيحِ

فَذَبَحْتَ طَرْفَكَ بِاللِّحَاظِ وَبِالْبُكَا *** فَالْقَلْبُ مِنْكَ ذَبِيحٌ أَيُّ ذَبِيحِ

وَقَدْ قِيلَ‏:‏ إِنَّ حَبْسَ اللَّحَظَاتِ أَيْسَرُ مِنْ دَوَامِ الْحَسَرَاتِ‏.‏

فَصْلٌ الْخَطْرَةُ

وأَمَّا الْخَطَرَاتُ‏:‏ فَشَأْنُهَا أَصْعَبُ، فَإِنَّهَا مَبْدَأُ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ، وَمِنْهَا تَتَوَلَّدُ الْإِرَادَاتُ وَالْهِمَمُ وَالْعَزَائِمُ، فَمَنْ رَاعَى خَطَرَاتِهِ مَلَكَ زِمَامَ نَفْسِهِ وَقَهَرَ هَوَاهُ، وَمَنْ غَلَبَتْهُ خَطَرَاتُهُ فَهَوَاهُ وَنَفْسُهُ لَهُ أَغْلَبُ، وَمَنِ اسْتَهَانَ بِالْخَطَرَاتِ قَادَتْهُ قَهْرًا إِلَى الْهَلَكَاتِ، وَلَا تَزَالُ الْخَطَرَاتُ تَتَرَدَّدُ عَلَى الْقَلْبِ حَتَّى تَصِيرَ مُنًى بَاطِلَةً‏.‏

‏{‏كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ النُّورِ‏:‏ 39‏]‏‏.‏

وَأَخَسُّ النَّاسِ هِمَّةً وَأَوْضَعُهُمْ نَفْسًا، مَنْ رَضِيَ مِنَ الْحَقَائِقِ بِالْأَمَانِي الْكَاذِبَةِ، وَاسْتَجْلَبَهَا لِنَفْسِهِ وَتَجَلَّى بِهَا، وَهِيَ لَعَمْرُ اللَّهِ رُءُوسُ أَمْوَالِ الْمُفْلِسِينَ، وَمَتَاجِرُ الْبَطَّالِينَ، وَهِيَ قُوتُ النَّفْسِ الْفَارِغَةِ، الَّتِي قَدْ قَنَعَتْ مِنَ الْوَصْلِ بِزَوْرَةِ الْخَيَالِ، وَمِنَ الْحَقَائِقِ بِكَوَاذِبِ الْآمَالِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ‏:‏

أَمَانِيَّ مِنْ سُعْدَى رِوَاءٌ عَلَى الظَّمَا *** سَقَتْنَا بِهَا سُعْدَى عَلَى ظَمَأٍ بَرْدَا

مُنًى إِنْ تَكُنْ حَقًّا تَكُنْ أَحْسَنَ الْمُنَى *** وَإِلَّا فَقَدْ عِشْنَا بِهَا زَمَنًا رَغْدَا

وَهِيَ أَضَرُّ شَيْءٍ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَيَتَوَلَّدُ مِنْهَا الْعَجْزُ وَالْكَسَلُ، وَتُوَلِّدُ التَّفْرِيطَ وَالْحَسْرَةَ وَالنَّدَمَ، وَالْمُتَمَنِّي لَمَّا فَاتَتْهُ مُبَاشَرَةُ الْحَقِيقَةِ بِجِسْمِهِ حَوَّلَ صُورَتَهَا فِي قَلْبِهِ، وَعَانَقَهَا وَضَمَّهَا إِلَيْهِ، فَقَنَعَ بِوِصَالِ صُورَةٍ وَهْمِيَّةٍ خَيَالِيَّةٍ صَوَّرَهَا فِكْرُهُ‏.‏

وَذَلِكَ لَا يُجْدِي عَلَيْهِ شَيْئًا، وَإِنَّمَا مَثَلُهُ مَثَلُ الْجَائِعِ وَالظَّمْآنِ، يُصَوِّرُ فِي وَهْمِهِ صُورَةَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَهُوَ لَا يَأْكُلُ وَلَا وَيَشْرَبُ‏.‏

وَالسُّكُونُ إِلَى ذَلِكَ وَاسْتِجْلَابُهُ يَدُلُّ عَلَى خَسَارَةِ النَّفْسِ وَوَضَاعَتِهَا، وَإِنَّمَا شَرَفُ النَّفْسِ وَزَكَاؤُهَا، وَطَهَارَتُهَا وَعُلُوُّهَا بِأَنْ يَنْفِيَ عَنْهَا كُلَّ خَطْرَةٍ لَا حَقِيقَةَ لَهَا، وَلَا يَرْضَى أَنْ يُخْطِرَهَا بِبَالِهِ، وَيَأْنَفَ لِنَفْسِهِ مِنْهَا‏.‏

ثُمَّ الْخَطَرَاتُ بَعْدُ أَقْسَامٌ تَدُورُ عَلَى أَرْبَعَةِ أُصُولٍ‏:‏

خَطَرَاتٌ يَسْتَجْلِبُ بِهَا الْعَبْدُ مَنَافِعَ دُنْيَاهُ‏.‏

وَخَطَرَاتٌ يَسْتَدْفِعُ بِهَا مَضَارَّ دُنْيَاهُ‏.‏

وَخَطَرَاتٌ يَسْتَجْلِبُ بِهَا مَصَالِحَ آخِرَتِهِ‏.‏

وَخَطَرَاتٌ يَسْتَدْفِعُ بِهَا مَضَارَّ آخِرَتِهِ‏.‏

فَلْيَحْصُرِ الْعَبْدُ خَطَرَاتِهِ وَأَفْكَارَهُ وَهُمُومَهُ فِي هَذِهِ الْأَقْسَامِ الْأَرْبَعَةِ، فَإِذَا انْحَصَرَتْ لَهُ فِيهَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهُ مِنْهَا وَلَمْ يَتْرُكْهُ لِغَيْرِهِ، وَإِذَا تَزَاحَمَتْ عَلَيْهِ الْخَطَرَاتُ لِتَزَاحُمِ مُتَعَلِّقَاتِهَا، قَدَّمَ الْأَهَمَّ فَالْأَهَمَّ الَّذِي يَخْشَى فَوْتَهُ، وَأَخَّرَ الَّذِي لَيْسَ بِأَهَمَّ وَلَا يَخَافُ فَوْتَهُ‏.‏

بَقِيَ قِسْمَانِ آخَرَانِ‏:‏

أَحَدُهُمَا‏:‏ مُهِمٌّ لَا يَفُوتُ‏.‏

وَالثَّانِي‏:‏ غَيْرُ مُهِمٍّ وَلَكِنَّهُ يَفُوتُ‏.‏

فَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا مَا يَدْعُو إِلَى تَقْدِيمِهِ، فَهُنَا يَقَعُ التَّرَدُّدُ وَالْحَيْرَةُ، فَإِنْ قَدَّمَ الْمُهِمَّ؛ خَشِيَ فَوَاتَ مَا دُونَهُ، وَإِنْ قَدَّمَ مَا دُونَهُ فَاتَهُ الِاشْتِغَالُ بِهِ عَنِ الْمُهِمِّ، وَكَذَلِكَ يَعْرِضُ لَهُ أَمْرَانِ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا، وَلَا يَحْصُلُ أَحَدُهُمَا إِلَّا بِتَفْوِيتِ الْآخَرِ‏.‏

فَهُوَ مَوْضِعُ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ وَالْفِقْهِ وَالْمَعْرِفَةِ، وَمِنْ هَاهُنَا ارْتَفَعَ مَنِ ارْتَفَعَ وَأَنْجَحَ مَنْ أَنْجَحَ، وَخَابَ مَنْ خَابَ، فَأَكْثَرُ مَنْ تَرَى مِمَّنْ يَعْظُمُ عَقْلُهُ وَمَعْرِفَتُهُ، يُؤْثِرُ غَيْرَ الْمُهِمِّ الَّذِي لَا يَفُوتُ عَلَى الْمُهِمِّ الَّذِي يَفُوتُ، وَلَا تَجِدُ أَحَدًا يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ، وَلَكِنْ مُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ‏.‏

وَالتَّحْكِيمُ فِي هَذَا الْبَابِ لِلْقَاعِدَةِ الْكُبْرَى الَّتِي عَلَيْهَا مَدَارُ الشَّرْعِ وَالْقَدَرِ، وَإِلَيْهَا مَرْجِعُ الْخَلْقِ وَالْأَمْرِ، وَهِيَ إِيثَارُ أَكْبَرِ الْمَصْلَحَتَيْنِ وَأَعْلَاهُمَا، وَإِنْ فَاتَتِ الْمَصْلَحَةُ الَّتِي هِيَ دُونَهَا، وَالدُّخُولُ فِي أَدْنَى الْمَفْسَدَتَيْنِ لِدَفْعِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا‏.‏

فَيُفَوِّتُ مَصْلَحَةً لِتَحْصِيلِ مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهَا، وَيَرْتَكِبُ مَفْسَدَةً لِدَفْعِ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهَا‏.‏

خَطَرَاتُ الْعَاقِلِ

فَخَطَرَاتُ الْعَاقِلِ وَفِكْرُهُ لَا يُجَاوِزُ ذَلِكَ، وَبِذَلِكَ جَاءَتِ الشَّرَائِعُ، وَمَصَالِحُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى ذَلِكَ، وَأَعْلَى الْفِكَرِ وَأَجَلُّهَا وَأَنْفَعُهَا‏:‏ مَا كَانَ لِلَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، فَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ أَنْوَاعٌ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الْفِكْرَةُ فِي آيَاتِهِ الْمُنَزَّلَةِ وَتَعَقُّلُهَا، وَفَهْمُهَا وَفَهْمُ مُرَادِهِ مِنْهَا، وَلِذَلِكَ أَنْزَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى، لَا لِمُجَرَّدِ تِلَاوَتِهَا، بَلِ التِّلَاوَةُ وَسِيلَةٌ‏.‏

قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ أُنْزِلَ الْقُرْآنُ لِيُعْمَلَ بِهِ، فَاتَّخَذُوا تِلَاوَتَهُ عَمَلًا‏.‏

الثَّانِي‏:‏ الْفِكْرَةُ فِي آيَاتِهِ الْمَشْهُودَةِ وَالِاعْتِبَارُ بِهَا، وَالِاسْتِدْلَالُ بِهَا عَلَى أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، وَحِكْمَتِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَبِرِّهِ وَجُودِهِ، وَقَدْ حَضَّ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عِبَادَهُ عَلَى التَّفَكُّرِ فِي آيَاتِهِ وَتَدَبُّرِهَا وَتَعَقُّلِهَا، وَذَمَّ الْغَافِلَ عَنْ ذَلِكَ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ الْفِكْرَةُ فِي آلَائِهِ وَإِحْسَانِهِ، وَإِنْعَامِهِ عَلَى خَلْقِهِ بِأَصْنَافِ النِّعَمِ، وَسَعَةِ رَحْمَتِهِ وَمَغْفِرَتِهِ وَحِلْمِهِ‏.‏

وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ الثَّلَاثَةُ تَسْتَخْرِجُ مِنَ الْقَلْبِ مَعْرِفَةَ اللَّهِ وَمَحَبَّتَهُ وَخَوْفَهُ وَرَجَاءَهُ‏.‏ وَدَوَامُ الْفِكْرَةِ فِي ذَلِكَ مَعَ الذِّكْرِ يَصْبُغُ الْقَلْبَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ صِبْغَةً تَامَّةً‏.‏

الرَّابِعُ‏:‏ الْفِكْرَةُ فِي عُيُوبِ النَّفْسِ وَآفَاتِهَا، وَفِي عُيُوبِ الْعَمَلِ، وَهَذِهِ الْفِكْرَةُ عَظِيمَةُ النَّفْعِ، وَهَذَا بَابٌ لِكُلِّ خَيْرٍ، وَتَأْثِيرُهَا فِي كَسْرِ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ بِالسُّوءِ، وَمَتَى كُسِرَتْ عَاشَتِ النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ وَانْبَعَثَتْ وَصَارَ الْحُكْمُ لَهَا، فَحَيِيَ الْقَلْبُ، وَدَارَتْ كَلِمَتُهُ فِي مَمْلَكَتِهِ، وَبَثَّ أُمَرَاءَهُ وَجُنُودَهُ فِي مَصَالِحِهِ‏.‏

الْخَامِسُ‏:‏ الْفِكْرَةُ فِي وَاجِبِ الْوَقْتِ وَوَظِيفَتِهِ وَجَمْعُ الْهَمِّ كُلِّهِ عَلَيْهِ، فَالْعَارِفُ ابْنُ وَقْتِهِ، فَإِنْ أَضَاعَهُ ضَاعَتْ عَلَيْهِ مَصَالِحُهُ كُلُّهَا، فَجَمِيعُ الْمَصَالِحِ إِنَّمَا تَنْشَأُ مِنَ الْوَقْتِ، وَإِنْ ضَيَّعَهُ لَمْ يَسْتَدْرِكْهُ أَبَدًا‏.‏

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -‏:‏ ‏"‏صَحِبْتُ الصُّوفِيَّةَ فَلَمْ أَسْتَفِدْ مِنْهُمْ سِوَى حَرْفَيْنِ‏:‏ أَحَدُهُمَا قَوْلُهُمْ‏:‏ الْوَقْتُ سَيْفٌ، فَإِنْ قَطَعْتَهُ وَإِلَّا قَطَعَكَ‏"‏‏.‏

وَذَكَرَ الْكَلِمَةَ الْأُخْرَى‏:‏ ‏"‏وَنَفْسُكَ إِنْ لَمْ تَشْغَلْهَا بِالْحَقِّ وَإِلَّا شَغَلَتْكَ بِالْبَاطِلِ‏"‏‏.‏

فَوَقْتُ الْإِنْسَانِ هُوَ عُمُرُهُ فِي الْحَقِيقَةِ، وَهُوَ مَادَّةُ حَيَاتِهِ الْأَبَدِيَّةِ فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ، وَمَادَّةُ الْمَعِيشَةِ الضَّنْكِ فِي الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهُوَ يَمُرُّ أَسْرَعَ مِنَ السَّحَابِ، فَمَا كَانَ مِنْ وَقْتِهِ لِلَّهِ وَبِاللَّهِ فَهُوَ حَيَاتُهُ وَعُمُرُهُ، وَغَيْرُ ذَلِكَ لَيْسَ مَحْسُوبًا مِنْ حَيَاتِهِ، وَإِنْ عَاشَ فِيهِ عَاشَ عَيْشَ الْبَهَائِمِ، فَإِذَا قَطَعَ وَقْتَهُ فِي الْغَفْلَةِ وَالسَّهْوِ وَالْأَمَانِيِّ الْبَاطِلَةِ، وَكَانَ خَيْرَ مَا قَطَعَهُ بِهِ النَّوْمُ وَالْبِطَالَةُ، فَمَوْتُ هَذَا خَيْرٌ لَهُ مِنْ حَيَاتِهِ‏.‏

وَإِذَا كَانَ الْعَبْدُ - وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ - لَيْسَ لَهُ مِنْ صَلَاتِهِ إِلَّا مَا عَقَلَ مِنْهَا فَلَيْسَ لَهُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا مَا كَانَ فِيهِ بِاللَّهِ وَلِلَّهِ‏.‏

وَمَا عَدَا هَذِهِ الْأَقْسَامِ مِنَ الْخَطَرَاتِ وَالْفِكَرِ، فَإِمَّا وَسَاوِسُ شَيْطَانِيَّةٌ وَإِمَّا أَمَانِيُّ بَاطِلَةٌ، وَخِدَعٌ كَاذِبَةٌ، بِمَنْزِلَةِ خَوَاطِرِ الْمُصَابِينَ فِي عُقُولِهِمْ مِنَ السُّكَارَى وَالْمَحْشُوشِينَ وَالْمُوَسْوِسِينَ، وَلِسَانُ حَالِ هَؤُلَاءِ يَقُولُ عِنْدَ انْكِشَافِ الْحَقَائِقِ‏:‏

إِنْ كَانَ مَنْزِلَتِي فِي الْحَشْرِ عِنْدَكُمْ *** مَا قَدْ لَقِيتُ فَقَدْ ضَيَّعْتُ أَيَّامِي

أُمْنِيَّةٌ ظَفِرَتْ نَفْسِي بِهَا زَمَنًا *** وَالْيَوْمَ أَحْسَبُهَا أَضْغَاثَ أَحْلَامِ

وَاعْلَمْ أَنَّ وُرُودَ الْخَاطِرِ لَا يَضُرُّ، وَإِنَّمَا يَضُرُّ اسْتِدْعَاؤُهُ وَمُحَادَثَتُهُ، فَالْخَاطِرُ كَالْمَارِّ عَلَى الطَّرِيقِ، فَإِنْ تَرَكْتَهُ مَرَّ وَانْصَرَفَ عَنْكَ، وَإِنِ اسْتَدْعَيْتَهُ سَحَرَكَ بِحَدِيثِهِ وَغُرُورِهِ، وَهُوَ أَخَفُّ شَيْءٍ عَلَى النَّفْسِ الْفَارِغَةِ الْبَاطِلَةِ، وَأَثْقَلُ شَيْءٍ عَلَى الْقَلْبِ وَالنَّفْسِ الشَّرِيفَةِ السَّمَاوِيَّةِ الْمُطْمَئِنَّةِ‏.‏

وَقَدْ رَكَّبَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ فِي الْإِنْسَانِ نَفْسَيْنِ‏:‏ نَفْسًا أَمَّارَةً وَنَفْسًا مُطْمَئِنَّةً، وَهُمَا مُتَعَادِيَتَانِ، فَكُلُّ مَا خَفَّ عَلَى هَذِهِ ثَقُلَ عَلَى هَذِهِ، وَكُلُّ مَا الْتَذَّتْ بِهِ هَذِهِ تَأَلَّمَتْ بِهِ الْأُخْرَى، فَلَيْسَ عَلَى النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ لِلَّهِ وَإِيثَارِ رِضَاهُ عَلَى هَوَاهَا، وَلَيْسَ لَهَا أَنْفَعُ مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى النَّفْسِ الْمُطْمَئِنَّةِ أَشَقُّ مِنَ الْعَمَلِ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَمَا جَاءَ بِهِ دَاعِي الْهَوَى‏.‏

وَلَيْسَ عَلَيْهَا شَيْءٌ أَضَرُّ مِنْهُ، وَالْمَلَكُ مَعَ هَذِهِ عَنْ يَمْنَةِ الْقَلْبِ، وَالشَّيْطَانُ مَعَ تِلْكَ عَنْ يَسْرَةِ الْقَلْبِ، وَالْحُرُوبُ مُسْتَمِرَّةٌ لَا تَضَعُ أَوْزَارَهَا إِلَّا أَنْ يُسْتَوْفَى أَجَلُهَا مِنَ الدُّنْيَا، وَالْبَاطِلُ كُلُّهُ يَتَحَيَّزُ مَعَ الشَّيْطَانِ وَالْأَمَّارَةِ، وَالْحَقُّ كُلُّهُ يَتَحَيَّزُ مَعَ الْمَلَكِ وَالْمُطْمَئِنَّةِ، وَالْحَرْبُ دُوَلٌ وَسِجَالٌ، وَالنَّصْرُ مَعَ الصَّبْرِ، وَمَنْ صَبَرَ وَصَابَرَ وَرَابَطَ وَاتَّقَى اللَّهَ فَلَهُ الْعَاقِبَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ حَكَمَ اللَّهُ تَعَالَى حُكْمًا لَا يُبَدَّلُ أَبَدًا‏:‏ أَنَّ الْعَاقِبَةَ لِلتَّقْوَى، وَالْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ، فَالْقَلْبُ لَوْحٌ فَارِغٌ، وَالْخَوَاطِرُ نُقُوشٌ تُنْقَشُ فِيهِ، فَكَيْفَ يَلِيقُ بِالْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ نُقُوشُ لَوْحِهِ مَا بَيْنَ كَذِبٍ وَغُرُورٍ وَخُدَعٍ، وَأَمَانِيِّ بَاطِلَةٍ، وَسَرَابٍ لَا حَقِيقَةَ لَهُ‏؟‏ فَأَيُّ حِكْمَةٍ وَعِلْمٍ وَهُدًى يَنْتَقِشُ مَعَ هَذِهِ النُّقُوشِ‏؟‏ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْتَقِشَ ذَلِكَ فِي لَوْحِ قَلْبِهِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ كِتَابَةِ الْعِلْمِ النَّافِعِ فِي مَحِلٍّ مَشْغُولٍ بِكِتَابَةِ مَا لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ، فَإِنْ لَمْ يُفْرِغِ الْقَلْبَ مِنَ الْخَوَاطِرِ الرَّدِيَّةِ، لَمْ تَسْتَقِرَّ فِيهِ الْخَوَاطِرُ النَّافِعَةُ، فَإِنَّهَا لَا تَسْتَقِرُّ إِلَّا فِي مَحِلٍّ فَارِغٍ، كَمَا قِيلَ‏:‏

أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى *** فَصَادَفَ قَلْبًا فَارِغًا فَتَمَكَّنَا

وَهَذَا كَثِيرٌ مِنْ أَرْبَابِ السُّلُوكِ بَنَوْا سُلُوكَهُمْ عَلَى حِفْظِ الْخَوَاطِرِ، وَأَنْ لَا يُمَكِّنُوا خَاطِرًا يَدْخُلُ قُلُوبَهُمْ حَتَّى تَصِيرَ الْقُلُوبُ فَارِغَةً قَابِلَةً لِلْكَشْفِ وَظُهُورِ حَقَائِقِ الْعُلْوِيَّاتِ فِيهَا، وَهَؤُلَاءِ حَفِظُوا شَيْئًا وَغَابَتْ عَنْهُمْ أَشْيَاءُ، فَإِنَّهُمْ أَخْلَوُا الْقُلُوبَ مِنْ أَنْ يَطْرُقَهَا خَاطِرٌ فَبَقِيَتْ فَارِغَةً لَا شَيْءَ فِيهَا، فَصَادَفَهَا الشَّيْطَانُ خَالِيَةً، فَبَذَرَ فِيهَا الْبَاطِلَ فِي قَوَالِبَ أَوْهَمَهُمْ أَنَّهَا أَعْلَى الْأَشْيَاءِ وَأَشْرَفُهَا، وَعَوَّضَهُمْ بِهَا عَنِ الْخَوَاطِرِ الَّتِي هِيَ مَادَّةُ الْعِلْمِ وَالْهُدَى، وَإِذَا خَلَا الْقَلْبُ عَنْ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ جَاءَ الشَّيْطَانُ فَوَجَدَ الْمَحِلَّ خَالِيًا، فَيَشْغَلُهُ بِمَا يُنَاسِبُ حَالَ صَاحِبِهِ، حَيْثُ لَمْ يَسْتَطِعْ أَنْ يَشْغَلَهُ بِالْخَوَاطِرِ السُّفْلِيَّةِ، فَشَغَلَهُ بِإِرَادَةِ التَّجْرِيدِ وَالْفَرَاغِ مِنَ الْإِرَادَةِ الَّتِي لَا صَلَاحَ لِلْعَبْدِ وَلَا فَلَاحَ إِلَّا أَنْ تَكُونَ هِيَ الْمُسْتَوْلِيَةَ عَلَى قَلْبِهِ، وَهِيَ إِرَادَةُ مُرَادِ اللَّهِ الدِّينِيِّ الْأَمْرِيِّ الَّذِي يُحِبُّهُ وَيَرْضَاهُ، وَشُغْلُ الْقَلْبِ وَاهْتِمَامُهُ بِمَعْرِفَتِهِ عَلَى التَّفْصِيلِ بِهِ، وَالْقِيَامِ بِهِ، وَتَنْفِيذِهِ فِي الْخَلْقِ، وَالتَّطَرُّقِ إِلَى ذَلِكَ، وَالتَّوَسُّلِ إِلَيْهِ بِالدُّخُولِ فِي الْخَلْقِ لِتَنْفِيذِهِ، فَيُضِلُّهُمُ الشَّيْطَانُ عَنْ ذَلِكَ بِأَنْ دَعَاهُمْ إِلَى تَرْكِهِ وَتَعْطِيلِهِ مِنْ بَابِ الزُّهْدِ فِي خَوَاطِرِ الدُّنْيَا وَأَسْبَابِهَا‏.‏

وَأَوْهَمَهُمْ أَنَّ كَمَالَهُمْ فِي ذَلِكَ التَّجْرِيدِ وَالْفَرَاغِ، وَهَيْهَاتَ هَيْهَاتَ، إِنَّمَا الْكَمَالُ فِي امْتِلَاءِ الْقَلْبِ مِنَ الْخَوَاطِرِ وَالْإِرَادَاتِ وَالْفِكْرِ فِي تَحْصِيلِ مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى مِنَ الْعَبْدِ وَمِنَ النَّاسِ، وَالْفِكْرِ فِي طُرُقِ ذَلِكَ وَالتَّوَصُّلِ إِلَيْهِ، فَأَكْمَلُ النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ خَوَاطِرَ وَفِكْرًا وَإِرَادَاتٍ لِذَلِكَ، كَمَا أَنَّ أَنْقَصَ النَّاسِ أَكْثَرُهُمْ خَوَاطِرَ وَفِكْرًا وَإِرَادَاتٍ لِحُظُوظِهِ وَهَوَاهُ أَيْنَ كَانَتْ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ‏.‏

وَهَذَا عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَتْ تَتَزَاحَمُ عَلَيْهِ الْخَوَاطِرُ فِي مَرَاضِي الرَّبِّ تَعَالَى، فَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَهَا فِي صَلَاتِهِ، فَكَانَ يُجَهِّزُ جَيْشَهُ وَهُوَ فِي الصَّلَاةِ، فَيَكُونُ قَدْ جَمَعَ بَيْنَ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ، وَهَذَا مِنْ بَابِ تَدَاخُلِ الْعِبَادَاتِ فِي الْعِبَادَةِ الْوَاحِدَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابٍ عَزِيزٍ شَرِيفٍ، لَا يَدْخُلُ مِنْهُ إِلَّا صَادِقٌ حَاذِقُ الطَّلَبِ، مُتَضَلِّعٌ مِنَ الْعِلْمِ، عَالِي الْهِمَّةِ، بِحَيْثُ يَدْخُلُ فِي عِبَادَةٍ يَظْفَرُ فِيهَا بِعِبَادَاتٍ شَتَّى، وَذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ‏.‏

فَصْلٌ اللَّفْظَةُ

وأَمَّا اللَّفَظَاتُ‏:‏ فَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا يُخْرِجَ لَفْظَةً ضَائِعَةً، بَلْ لَا يَتَكَلَّمُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو فِيهِ الرِّبْحَ وَالزِّيَادَةَ فِي دِينِهِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِالْكَلِمَةِ نَظَرَ‏:‏ هَلْ فِيهَا رِبْحٌ وَفَائِدَةٌ أَمْ لَا‏؟‏ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا رِبْحٌ أَمْسَكَ عَنْهَا، وَإِنْ كَانَ فِيهَا رِبْحٌ، نَظَرَ‏:‏ هَلْ تَفُوتُهُ بِهَا كَلِمَةٌ أَرْبَحُ مِنْهَا، فَلَا يُضَيِّعُهَا بِهَذِهِ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَسْتَدِلَّ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، فَاسْتَدِلَّ عَلَيْهِ بِحَرَكَةِ اللِّسَانِ، فَإِنَّهُ يُطْلِعُكَ عَلَى مَا فِي الْقَلْبِ، شَاءَ صَاحِبُهُ أَمْ أَبَى‏.‏

قَالَ يَحْيَى بْنُ مُعَاذٍ‏:‏ الْقُلُوبُ كَالْقُدُورِ تَغْلِي بِمَا فِيهَا، وَأَلْسِنَتُهَا مَغَارِفُهَا، فَانْظُرْ إِلَى الرَّجُلِ حِينَ يَتَكَلَّمُ فَإِنَّ لِسَانَهُ يَغْتَرِفُ لَكَ بِمَا فِي قَلْبِهِ، حُلْوٌ وَحَامِضٌ، وَعَذْبٌ وَأُجَاجٌ، وَغَيْرُ ذَلِكَ، وَيُبَيِّنُ لَكَ طَعْمَ قَلْبِهِ اغْتِرَافُ لِسَانِهِ، أَيْ كَمَا تَطْعَمُ بِلِسَانِكَ طَعْمَ مَا فِي الْقُدُورِ مِنَ الطَّعَامِ فَتُدْرِكُ الْعِلْمَ بِحَقِيقَتِهِ، كَذَلِكَ تَطْعَمُ مَا فِي قَلْبِ الرَّجُلِ مِنْ لِسَانِهِ، فَتَذُوقُ مَا فِي قَلْبِهِ مِنْ لِسَانِهِ، كَمَا تَذُوقُ مَا فِي الْقِدْرِ بِلِسَانِكَ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَنَسٍ الْمَرْفُوعِ‏:‏ لَا يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلَا يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»

وَسُئِلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ أَكْثَرِ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ الْفَمُ وَالْفَرْجُ» قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وَقَدْ سَأَلَ مُعَاذٌ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ الْعَمَلِ الَّذِي يُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ وَيُبَاعِدُهُ مِنَ النَّارِ، فَأَخْبَرَهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِرَأْسِهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَلَا أُخْبِرُكَ بِمِلَاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ ثُمَّ قَالَ‏:‏ كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا، فَقَالَ‏:‏ وَإِنَّا لَمُؤَاخَذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى وُجُوهِهِمْ - أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ - إِلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ‏؟‏» قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ‏.‏

وَمِنَ الْعَجَبِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَهُونُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ وَالِاحْتِرَازُ مِنْ أَكْلِ الْحَرَامِ وَالظُّلْمِ وَالزِّنَى وَالسَّرِقَةِ وَشُرْبِ الْخَمْرِ، وَمِنَ النَّظَرِ الْمُحَرَّمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَيَصْعُبُ عَلَيْهِ التَّحَفُّظُ مِنْ حَرَكَةِ لِسَانِهِ، حَتَّى تَرَى الرَّجُلَ يُشَارُ إِلَيْهِ بِالدِّينِ وَالزُّهْدِ وَالْعِبَادَةِ، وَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَاتِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا، يَنْزِلُ بِالْكَلِمَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْهَا أَبْعَدَ مِمَّا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَمْ تَرَى مِنْ رَجُلٍ مُتَوَرِّعٍ عَنِ الْفَوَاحِشِ وَالظُّلْمِ، وَلِسَانُهُ يَفْرِي فِي أَعْرَاضِ الْأَحْيَاءِ وَالْأَمْوَاتِ، وَلَا يُبَالِي مَا يَقُولُ‏.‏

وَإِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَعْرِفَ ذَلِكَ فَانْظُرْ فِيمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ جُنْدُبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ قَالَ رَجُلٌ‏:‏ وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ، فَقَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ‏:‏ مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنِّي لَا أَغْفِرُ لِفُلَانٍ‏؟‏ قَدْ غَفَرْتُ لَهُ وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ» فَهَذَا الْعَابِدُ الَّذِي قَدْ عَبَدَ اللَّهَ مَا شَاءَ أَنْ يَعْبُدَهُ، أَحْبَطَتْ هَذِهِ الْكَلِمَةُ الْوَاحِدَةُ عَمَلَهُ كُلَّهُ‏.‏

وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ نَحْوُ ذَلِكَ، ثُمَّ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ‏:‏ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَرْفَعُهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَاتٍ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ لَا يُلْقِي لَهَا بَالًا؛ يَهْوِي بِهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ»، وَعِنْدَ مُسْلِمٍ‏:‏ إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مَا يَتَبَيَّنُ مَا فِيهَا يَزِلُّ بِهَا فِي النَّارِ أَبْعَدَ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ»‏.‏

وَعِنْدَ التِّرْمِذِيِّ مِنْ حَدِيثِ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ الْمُزَنِيِّ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا رِضْوَانَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللَّهِ مَا يَظُنُّ أَنْ تَبْلُغَ مَا بَلَغَتْ، فَيَكْتُبُ اللَّهُ لَهُ بِهَا سَخَطَهُ إِلَى يَوْمِ يَلْقَاهُ»، وَكَانَ عَلْقَمَةُ يَقُولُ‏:‏ كَمْ مِنْ كَلَامٍ قَدْ مَنَعَنِيهِ حَدِيثُ بِلَالِ بْنِ الْحَارِثِ‏.‏

وَفِي جَامِعِ التِّرْمِذِيِّ أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ‏:‏ قَالَ‏:‏ تُوُفِّيَ رَجُلٌ مِنَ الصَّحَابَةِ، فَقَالَ رَجُلٌ‏:‏ أَبْشِرْ بِالْجَنَّةِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ وَمَا يُدْرِيكَ‏؟‏ لَعَلَّهُ تَكَلَّمَ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، أَوْ بَخِلَ بِمَا لَا يُنْقِصُهُ» قَالَ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَفِي لَفْظٍ‏:‏ أَنَّ غُلَامًا اسْتُشْهِدَ يَوْمَ أُحُدٍ، فَوُجِدَ عَلَى بَطْنِهِ صَخْرَةٌ مَرْبُوطَةٌ مِنَ الْجُوعِ، فَمَسَحَتْ أُمُّهُ التُّرَابَ عَنْ وَجْهِهِ وَقَالَتْ‏:‏ هَنِيئًا لَكَ يَا بُنَيَّ الْجَنَّةُ، فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ وَمَا يُدْرِيكِ‏؟‏ لَعَلَّهُ كَانَ يَتَكَلَّمُ فِيمَا لَا يَعْنِيهِ، وَيَمْنَعُ مَا لَا يَضُرُّهُ»‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ‏:‏ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ» وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ‏:‏ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَإِذَا شَهِدَ أَمْرًا فَلْيَتَكَلَّمْ بِخَيْرٍ أَوْ لِيَسْكُتْ»‏.‏

وَذَكَرَ التِّرْمِذِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ الْمَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ»‏.‏

وَعَنْ سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الثَّقَفِيِّ قَالَ‏:‏ قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْ لِي فِي الْإِسْلَامِ قَوْلًا لَا أَسْأَلُ عَنْهُ أَحَدًا بَعْدَكَ، قُلْ آمَنْتُ بِاللَّهِ ثُمَّ اسْتَقِمْ، قُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا أَخْوَفُ مَا تَخَافُ عَلَيَّ‏؟‏ فَأَخَذَ بِلِسَانِ نَفْسِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ هَذَا، وَالْحَدِيثُ صَحِيحٌ‏.‏

وَعَنْ أُمِّ حَبِيبَةَ زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ إِلَّا أَمْرًا بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيًا عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ ذِكْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، قَالَ التِّرْمِذِيُّ‏:‏ حَدِيثٌ حَسَنٌ‏.‏

وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ‏:‏ إِذَا أَصْبَحَ الْعَبْدُ، فَإِنَّ الْأَعْضَاءَ كُلَّهَا تُكَفِّرُ اللِّسَانَ، تَقُولُ‏:‏ اتَّقِ اللَّهَ فِينَا فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ، فَإِذَا اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا، وَإِنِ اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا»‏.‏

وَقَدْ كَانَ بَعْضُ السَّلَفِ يُحَاسِبُ أَحَدُهُمْ نَفْسَهُ فِي قَوْلِهِ‏:‏ يَوْمٌ حَارٌّ، وَيَوْمٌ بَارِدٌ‏.‏ وَلَقَدْ رُئِيَ بَعْضُ الْأَكَابِرِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي النَّوْمِ فَسُئِلَ عَنْ حَالِهِ، فَقَالَ‏:‏ أَنَا مَوْقُوفٌ عَلَى كَلِمَةٍ قُلْتُهَا، قُلْتُ‏:‏ مَا أَحْوَجَ النَّاسَ إِلَى غَيْثٍ، فَقِيلَ لِي‏:‏ وَمَا يُدْرِيكَ‏؟‏ أَنَا أَعْلَمُ بِمَصْلَحَةِ عِبَادِي‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ لِجَارِيَتِهِ يَوْمًا‏:‏ هَاتِي السُّفْرَةَ نَعْبَثُ بِهَا، ثُمَّ قَالَ‏:‏ أَسْتَغْفِرُ اللَّهَ، مَا أَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ إِلَّا وَأَنَا أَخْطُمُهَا وَأَزُمُّهَا إِلَّا هَذِهِ الْكَلِمَةَ خَرَجَتْ مِنِّي بِغَيْرِ خِطَامٍ وَلَا زِمَامٍ، أَوْ كَمَا قَالَ‏.‏

وَأَيْسَرُ حَرَكَاتِ الْجَوَارِحِ حَرَكَةُ اللِّسَانِ وَهِيَ أَضَرُّهَا عَلَى الْعَبْدِ‏.‏

وَاخْتَلَفَ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ هَلْ يُكْتَبُ جَمِيعُ مَا يُلْفَظُ بِهِ أَوِ الْخَيْرُ وَالشَّرُّ فَقَطْ‏؟‏ عَلَى قَوْلَيْنِ أَظْهَرُهُمَا الْأَوَّلُ‏.‏

وَقَالَ بَعْضُ السَّلَفِ‏:‏ كُلُّ كَلَامِ ابْنِ آدَمَ عَلَيْهِ لَا لَهُ، إِلَّا مَا كَانَ مِنَ اللَّهِ وَمَا وَالَاهُ، وَكَانَ الصِّدِّيقُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يُمْسِكُ عَلَى لِسَانِهِ وَيَقُولُ‏:‏ هَذَا أَوْرَدَنِي الْمَوَارِدَ، وَالْكَلَامُ أَسِيرُكَ، فَإِذَا خَرَجَ مِنْ فِيكَ صِرْتَ أَنْتَ أَسِيرَهُ، وَاللَّهُ عِنْدَ لِسَانِ كُلِّ قَائِلٍ‏:‏ ‏{‏مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ‏}‏‏.‏

وَفِي اللِّسَانِ آفَتَانِ عَظِيمَتَانِ، إِنْ خَلَصَ الْعَبْدُ مِنْ إِحْدَاهُمَا لَمْ يَخْلُصْ مِنَ الْأُخْرَى‏:‏ آفَةُ الْكَلَامِ، وَآفَةُ السُّكُوتِ، وَقَدْ يَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا أَعْظَمَ إِثْمًا مِنَ الْأُخْرَى فِي وَقْتِهَا، فَالسَّاكِتُ عَنِ الْحَقِّ شَيْطَانٌ أَخْرَسُ، عَاصٍ لِلَّهِ، مُرَاءٍ مُدَاهِنٌ إِذَا لَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ، وَالْمُتَكَلِّمُ بِالْبَاطِلِ شَيْطَانٌ نَاطِقٌ، عَاصٍ لِلَّهِ، وَأَكْثَرُ الْخَلْقِ مُنْحَرِفٌ فِي كَلَامِهِ وَسُكُوتِهِ فَهُمْ بَيْنَ هَذَيْنِ النَّوْعَيْنِ، وَأَهْلُ الْوَسَطِ - وَهُمْ أَهْلُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ - كَفُّوا أَلْسِنَتَهُمْ عَنِ الْبَاطِلِ، وَأَطْلَقُوهَا فِيمَا يَعُودُ عَلَيْهِمْ نَفْعُهُ فِي الْآخِرَةِ، فَلَا تَرَى أَحَدَهُمْ يَتَكَلَّمُ بِكَلِمَةٍ تَذْهَبُ عَلَيْهِ ضَائِعَةً بِلَا مَنْفَعَةٍ، فَضْلًا أَنَ تَضُرَّهُ فِي آخِرَتِهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ، فَيَجِدُ لِسَانَهُ قَدْ هَدَمَهَا عَلَيْهِ كُلَّهَا، وَيَأْتِي بِسَيِّئَاتٍ أَمْثَالِ الْجِبَالِ فَيَجِدُ لِسَانَهُ قَدْ هَدَمَهَا مِنْ كَثْرَةِ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَا اتَّصَلَ بِهِ‏.‏

فَصْلٌ الْخُطْوَةُ

وأَمَّا الْخُطُوَاتُ‏:‏ فَحِفْظُهَا بِأَنْ لَا يَنْقِلَ قَدَمَهُ إِلَّا فِيمَا يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي خُطَاهُ مَزِيدُ ثَوَابٍ، فَالْقُعُودُ عَنْهَا خَيْرٌ لَهُ، وَيُمْكِنُهُ أَنْ يَسْتَخْرِجَ مِنْ كُلِّ مُبَاحٍ يَخْطُو إِلَيْهِ قُرْبَةً يَنْوِيهَا لِلَّهِ، فَتَقَعُ خُطَاهُ قُرْبَةً‏.‏

وَلَمَّا كَانَتِ الْعَثْرَةُ عَثْرَتَيْنِ‏:‏ عَثْرَةَ الرِّجْلِ وَعَثْرَةَ اللِّسَانِ، جَاءَتْ إِحْدَاهُمَا قَرِينَةَ الْأُخْرَى فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْفُرْقَانِ‏:‏ 63‏]‏‏.‏

فَوَصَفَهُمْ بِالِاسْتِقَامَةِ فِي لَفْظَاتِهِمْ وَخُطُوَاتِهِمْ، كَمَا جَمَعَ بَيْنَ اللَّحَظَاتِ وَالْخَطَرَاتِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ غَافِرٍ‏:‏ 19‏]‏‏.‏

فَصْلٌ ‏[‏تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَوُجُوبِ حِفْظِ الْفَرْجِ‏]‏

وهَذَا كُلُّهُ ذَكَرْنَاهُ مُقَدِّمَةً بَيْنَ يَدَيْ تَحْرِيمِ الْفَوَاحِشِ وَوُجُوبِ حِفْظِ الْفَرْجِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ أَكْثَرُ مَا يُدْخِلُ النَّاسَ النَّارَ‏:‏ الْفَمُ، وَالْفَرْجُ»‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ‏:‏ الثَّيِّبِ الزَّانِي، وَالنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، وَالتَّارِكِ لِدِينِهِ الْمُفَارِقِ لِلْجَمَاعَةِ، وَهَذَا الْحَدِيثُ فِي اقْتِرَانِ الزِّنَى بِالْكُفْرِ وَقَتْلِ النَّفْسِ، نَظِيرُ الْآيَةِ الَّتِي فِي الْفُرْقَانِ، وَنَظِيرُ حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ‏.‏

وَبَدَأَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِالْأَكْثَرِ وُقُوعًا، وَالَّذِي يَلِيهِ، فَالزِّنَى أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنْ قَتْلِ النَّفْسِ، وَقَتْلُ النَّفْسِ أَكْثَرُ وُقُوعًا مِنَ الرِّدَّةِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُ تَنَقَّلَ مِنَ الْأَكْبَرِ إِلَى مَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْهُ، وَمَفْسَدَةُ الزِّنَى مُنَاقِضَةٌ لِصَلَاحِ الْعَالَمِ‏:‏ فَإِنَّ الْمَرْأَةَ إِذَا زَنَتْ أَدْخَلَتِ الْعَارَ عَلَى أَهْلِهَا وَزَوْجِهَا وَأَقَارِبِهَا، وَنَكَّسَتْ رُءُوسَهُمْ بَيْنَ النَّاسِ، وَإِنْ حَمَلَتْ مِنَ الزِّنَى، فَإِنْ قَتَلَتْ وَلَدَهَا جَمَعَتْ بَيْنَ الزِّنَى وَالْقَتْلِ، وَإِنْ حَمَلَتْهُ عَلَى الزَّوْجِ أَدْخَلَتْ عَلَى أَهْلِهِ وَأَهْلِهَا أَجْنَبِيًّا لَيْسَ مِنْهُمْ، فَوَرِثَهُمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، وَرَآهُمْ وَخَلَا بِهِمْ وَانْتَسَبَ إِلَيْهِمْ وَلَيْسَ مِنْهُمْ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ مَفَاسِدِ زِنَاهَا‏.‏

وَأَمَّا زِنَى الرَّجُلِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ اخْتِلَاطَ الْأَنْسَابِ أَيْضًا، وَإِفْسَادَ الْمَرْأَةِ الْمَصُونَةِ وَتَعْرِيضَهَا لِلتَّلَفِ وَالْفَسَادِ، وَفِي هَذِهِ الْكَبِيرَةِ خَرَابُ الدُّنْيَا وَالدِّينِ، وَإِنْ عَمَرَتِ الْقُبُورَ فِي الْبَرْزَخِ وَالنَّارَ فِي الْآخِرَةِ، فَكَمْ فِي الزِّنَى مِنِ اسْتِحْلَالٍ لِحُرُمَاتٍ وَفَوَاتِ حُقُوقٍ وَوُقُوعِ مَظَالِمَ‏؟‏

وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ‏:‏ أَنَّهُ يُوجِبُ الْفَقْرَ، وَيُقَصِّرُ الْعُمُرَ، وَيَكْسُو صَاحِبَهُ سَوَادَ الْوَجْهِ، وَثَوْبَ الْمَقْتِ بَيْنَ النَّاسِ‏.‏

وَمِنْ خَاصِّيَّتِهِ أَيْضًا‏:‏ أَنَّهُ يُشَتِّتُ الْقَلْبَ وَيُمْرِضُهُ إِنْ لَمْ يُمِتْهُ، وَيَجْلِبُ الْهَمَّ وَالْحَزَنَ وَالْخَوْفَ، وَيُبَاعِدُ صَاحِبَهُ مِنَ الْمَلَكِ وَيُقَرِّبُهُ مِنَ الشَّيْطَانِ، فَلَيْسَ بَعْدَ مَفْسَدَةِ الْقَتْلِ أَعْظَمُ مِنْ مَفْسَدَتِهِ، وَلِهَذَا شُرِعَ فِيهِ الْقَتْلُ عَلَى أَشْنَعِ الْوُجُوهِ وَأَفْحَشِهَا وَأَصْعَبِهَا، وَلَوْ بَلَغَ الْعَبْدَ أَنَّ امْرَأَتَهُ أَوْ حُرْمَتَهُ قُتِلَتْ كَانَ أَسْهَلَ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَبْلُغَهُ أَنَّهَا زَنَتْ‏.‏

وَقَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -‏:‏ لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسَّيْفِ غَيْرَ مُصْفَحٍ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ‏:‏ تَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ‏؟‏ وَاللَّهِ لَأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَاللَّهُ أَغْيَرُ مِنِّي، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ»‏.‏ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَيْضًا عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ إِنَّ اللَّهَ يَغَارُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنَ يَغَارُ، وَغَيْرَةُ اللَّهِ أَنْ يَأْتِيَ الْعَبْدُ مَا حَرَّمَ عَلَيْهِ»‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -‏:‏ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ حَرَّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْسَلَ الرُّسُلَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا أَحَدَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمَدْحُ مِنَ اللَّهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَثْنَى عَلَى نَفْسِهِ»‏.‏

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ فِي خُطْبَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي صَلَاةِ الْكُسُوفِ أَنَّهُ يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ إِنَّهُ لَا أَحَدَ أَغْيَرُ مِنَ اللَّهِ أَنْ يَزْنِيَ عَبْدُهُ أَوْ تَزْنِيَ أَمَتُهُ، يَا أُمَّةَ مُحَمَّدٍ، وَاللَّهِ لَوْ تَعْلَمُونَ مَا أَعْلَمُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ وَقَالَ‏:‏ اللَّهُمَّ هَلْ بَلَّغْتُ‏؟‏»

وَفِي ذِكْرِ هَذِهِ الْكَبِيرَةِ بِخُصُوصِهَا عَقِبَ صَلَاةِ الْكُسُوفِ سِرٌّ بَدِيعٌ لِمَنْ تَأَمَّلَهُ، وَظُهُورُ الزِّنَى مِنْ أَمَارَاتِ خَرَابِ الْعَالَمِ، وَهُوَ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ، كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَا يُحَدِّثُكُمُوهُ أَحَدٌ بَعْدِي، سَمِعْتُهُ مِنَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ‏:‏ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُرْفَعَ الْعِلْمُ وَيَظْهَرَ الْجَهْلُ وَيُشْرَبَ الْخَمْرُ وَيَظْهَرَ الزِّنَى وَيَقِلَّ الرِّجَالُ وَتَكْثُرَ النِّسَاءُ، حَتَّى يَكُونَ لِخَمْسِينَ امْرَأَةً الْقَيِّمُ الْوَاحِدُ»‏.‏

وَقَدْ جَرَتْ سُنَّةُ اللَّهِ سُبْحَانَهُ فِي خَلْقِهِ أَنَّهُ عِنْدَ ظُهُورِ الزِّنَى يَغْضَبُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَيَشْتَدُّ غَضَبُهُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يُؤَثِّرَ غَضَبُهُ فِي الْأَرْضِ عُقُوبَةً‏.‏

قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ‏:‏ مَا ظَهَرَ الرِّبَا وَالزِّنَى فِي قَرْيَةٍ إِلَّا أَذِنَ اللَّهُ بِإِهْلَاكِهَا‏.‏

وَرَأَى بَعْضُ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ ابْنَهُ يَغْمِزُ امْرَأَةً، فَقَالَ‏:‏ مَهْلًا يَا بُنَيَّ، فَصُرِعَ الْأَبُ عَنْ سَرِيرِهِ فَانْقَطَعَ نُخَاعُهُ وَأَسْقَطَتِ امْرَأَتُهُ، وَقِيلَ لَهُ‏:‏ هَكَذَا غَضَبُكَ لِي‏؟‏ لَا يَكُونُ فِي جِنْسِكَ خَيْرٌ أَبَدًا‏.‏

وَخَصَّ سُبْحَانَهُ حَدَّ الزِّنَى مِنْ بَيْنِ الْحُدُودِ بِثَلَاثِ خَصَائِصَ‏:‏

أَحَدُهَا‏:‏ الْقَتْلُ فِيهِ بِأَشْنَعِ الْقَتَلَاتِ، وَحَيْثُ خَفَّفَهُ جَمَعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُقُوبَةِ عَلَى الْبَدَنِ بِالْجَلْدِ وَعَلَى الْقَلْبِ بِتَغْرِيبِهِ عَنْ وَطَنِهِ سَنَةً‏.‏

الثَّانِي‏:‏ أَنَّهُ نَهَى عِبَادَهُ أَنْ تَأْخُذَهُمْ بِالزُّنَاةِ رَأْفَةٌ فِي دِينِهِ، بِحَيْثُ تَمْنَعُهُمْ مِنْ إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ رَأْفَتِهِ بِهِمْ وَرَحْمَتِهِ بِهِمْ شَرَعَ هَذِهِ الْعُقُوبَةَ؛ فَهُوَ أَرْحَمُ بِكُمْ، وَلَمْ تَمْنَعْهُ رَحْمَتُهُ مِنْ أَمْرِهِ بِهَذِهِ الْعُقُوبَةِ، فَلَا يَمْنَعْكُمْ أَنْتُمْ مَا يَقُومُ بِقُلُوبِكُمْ مِنَ الرَّأْفَةِ مِنْ إِقَامَةِ أَمْرِهِ‏.‏

وَهَذَا - وَإِنْ كَانَ عَامًّا فِي سَائِرِ الْحُدُودِ - وَلَكِنْ ذُكِرَ فِي حَدِّ الزِّنَى خَاصَّةً لِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى ذِكْرِهِ، فَإِنَّ النَّاسَ لَا يَجِدُونَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الْغِلْظَةِ وَالْقَسْوَةِ عَلَى الزَّانِي مَا يَجِدُونَهُ عَلَى السَّارِقِ وَالْقَاذِفِ وَشَارِبِ الْخَمْرِ، فَقُلُوبُهُمْ تَرْحَمُ الزَّانِيَ أَكْثَرَ مِمَّا تَرْحَمُ غَيْرَهُ مِنْ أَرْبَابِ الْجَرَائِمِ، وَالْوَاقِعُ شَاهِدٌ بِذَلِكَ، فَنُهُوا أَنْ تَأْخُذَهُمْ هَذِهِ الرَّأْفَةُ وَتَحْمِلَهُمْ عَلَى تَعْطِيلِ حَدِّ اللَّهِ‏.‏

وَسَبَبُ هَذِهِ الرَّحْمَةِ‏:‏ أَنَّ هَذَا ذَنْبٌ يَقَعُ مِنَ الْأَشْرَافِ وَالْأَوْسَاطِ وَالْأَرَاذِلِ، وَفِي النُّفُوسِ أَقْوَى الدَّوَاعِي إِلَيْهِ، وَالْمُشَارِكُ فِيهِ كَثِيرٌ، وَأَكْثَرُ أَسْبَابِهِ الْعِشْقُ، وَالْقُلُوبُ مَجْبُولَةٌ إِلَى رَحْمَةِ الْعَاشِقِ، وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَعُدُّ مُسَاعَدَتَهُ طَاعَةً وَقُرْبَةً، وَإِنْ كَانَتِ الصُّورَةُ الْمَعْشُوقَةُ مُحَرَّمَةً عَلَيْهِ، وَلَا يَسْتَنْكِرُ هَذَا الْأَمْرَ، فَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عِنْدَ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ أَشْبَاهِ الْأَنْعَامِ، وَلَقَدْ حَكَى لَنَا مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا كَثِيرًا نُقَّاصُ الْعُقُولِ كَالْخُدَّامِ وَالنِّسَاءِ‏.‏

وَأَيْضًا فَإِنَّ هَذَا ذَنْبٌ غَالِبًا مَا يَقَعُ مَعَ التَّرَاضِي مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَلَا يَقَعُ فِيهِ مِنَ الْعُدْوَانِ وَالظُّلْمِ وَالِاغْتِصَابِ مَا تَنْفُرُ النُّفُوسُ مِنْهُ‏.‏

وَفِي النُّفُوسِ شَهْوَةٌ غَالِبَةٌ لَهُ فَيُصَوِّرُ ذَلِكَ لَهَا، فَتَقُومُ بِهَا رَحْمَةٌ تَمْنَعُ إِقَامَةَ الْحَدِّ، وَهَذَا كُلُّهُ مِنْ ضَعْفِ الْإِيمَانِ‏.‏ وَكَمَالُ الْإِيمَانِ أَنْ تَقُومَ بِهِ قُوَّةٌ يُقِيمُ بِهَا أَمْرَ اللَّهِ، وَرَحْمَةٌ يَرْحَمُ بِهَا الْمَحْدُودَ، فَيَكُونُ مُوَافِقًا لِرَبِّهِ تَعَالَى فِي أَمْرِهِ وَرَحْمَتِهِ‏.‏

الثَّالِثُ‏:‏ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ أَنْ يَكُونَ حَدُّهُمَا بِمَشْهَدٍ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلَا يَكُونُ فِي خَلْوَةٍ بِحَيْثُ لَا يَرَاهُمَا أَحَدٌ، وَذَلِكَ أَبْلَغُ فِي مَصْلَحَةِ الْحَدِّ، وَالْحِكْمَةُ الزَّجْرُ، وَحَدُّ الزَّانِي الْمُحْصَنِ مُشْتَقٌّ مِنْ عُقُوبَةِ اللَّهِ تَعَالَى لِقَوْمِ لُوطٍ بِالْقَذْفِ بِالْحِجَارَةِ، وَذَلِكَ لِاشْتِرَاكِ الزِّنَا وَاللِّوَاطِ فِي الْفُحْشِ، وَفِي كُلٍّ مِنْهُمَا فَسَادٌ يُنَاقِضُ حِكْمَةَ اللَّهِ فِي خَلْقِهِ وَأَمْرِهِ، فَإِنَّ فِي اللِّوَاطِ مِنَ الْمَفَاسِدِ مَا يَفُوتُ الْحَصْرَ وَالتَّعْدَادَ، وَلَأَنْ يُقْتَلَ الْمَفْعُولُ بِهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يُؤْتَى، فَإِنَّهُ يَفْسَدُ فَسَادًا لَا يُرْجَى لَهُ بَعْدَهُ صَلَاحٌ أَبَدًا، وَيَذْهَبُ خَيْرُهُ كُلُّهُ، وَتَمُصُّ الْأَرْضُ مَاءَ الْحَيَاءِ مِنْ وَجْهِهِ، فَلَا يَسْتَحِي بَعْدَ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ وَلَا مِنْ خَلْقِهِ، وَتَعْمَلُ فِي قَلْبِهِ وَرُوحِهِ نُطْفَةُ الْفَاعِلِ مَا يَعْمَلُ السُّمُّ فِي الْبَدَنِ‏.‏

وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّاسُ هَلْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَفْعُولٌ بِهِ‏؟‏ عَلَى قَوْلَيْنِ، سَمِعْتُ شَيْخَ الْإِسْلَامِ يَحْكِيهِمَا‏.‏

وَالَّذِينَ قَالُوا‏:‏ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ احْتَجُّوا بِأُمُورٍ‏:‏

مِنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ وَلَدُ زَنْيَةٍ» فَإِذَا كَانَ هَذَا حَالُ وَلَدِ الزِّنَى مَعَ أَنَّهُ لَا ذَنْبَ لَهُ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنَّهُ مَظِنَّةُ كُلِّ شَرٍّ وَخُبْثٍ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يَجِيءَ مِنْهُ خَيْرٌ أَبَدًا، لِأَنَّهُ مَخْلُوقٌ مِنْ نُطْفَةٍ خَبِيثَةٍ، وَإِذَا كَانَ الْجَسَدُ الَّذِي تَرَبَّى عَلَى الْحَرَامِ، النَّارُ أَوْلَى بِهِ، فَكَيْفَ بِالْجَسَدِ الْمَخْلُوقِ مِنَ النُّطْفَةِ الْحَرَامِ‏؟‏

قَالُوا‏:‏ وَالْمَفْعُولُ بِهِ شَرٌّ مِنْ وَلَدِ الزِّنَى، وَأَخْزَى وَأَخْبَثُ وَأَوْقَحُ، وَهُوَ جَدِيرٌ أَنْ لَا يُوَفَّقَ لِخَيْرٍ، وَأَنْ يُحَالَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ، وَكُلَّمَا عَمِلَ خَيْرًا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ مَا يُفْسِدُهُ عُقُوبَةً لَهُ، وَقَلَّ أَنْ تَرَى مَنْ كَانَ كَذَلِكَ فِي صِغَرِهِ إِلَّا وَهُوَ فِي كِبَرِهِ شَرٌّ مِمَّا كَانَ، وَلَا يُوَفَّقُ لِعِلْمٍ نَافِعٍ، وَلَا عَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَا تَوْبَةٍ نَصُوحٍ‏.‏

وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنْ يُقَالَ‏:‏ إِنْ تَابَ الْمُبْتَلَى بِهَذَا الْبَلَاءِ وَأَنَابَ، وَرُزِقَ تَوْبَةً نَصُوحًا وَعَمَلًا صَالِحًا، وَكَانَ فِي كِبَرِهِ خَيْرًا مِنْهُ فِي صِغَرِهِ، وَبَدَّلَ سَيِّئَاتِهِ بِحَسَنَاتٍ، وَغَسَلَ عَارَ ذَلِكَ عَنْهُ بِأَنْوَاعِ الطَّاعَاتِ وَالْقُرُبَاتِ، وَغَضَّ بَصَرَهُ وَحَفِظَ فَرْجَهُ عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ، وَصَدَقَ اللَّهَ فِي مُعَامَلَتِهِ، فَهَذَا مَغْفُورٌ لَهُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، وَإِذَا كَانَتِ التَّوْبَةُ تَمْحُو كُلَّ ذَنْبٍ، حَتَّى الشِّرْكَ بِاللَّهِ وَقَتْلَ أَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَالسِّحْرَ وَالْكُفْرَ وَغَيْرَ ذَلِكَ، فَلَا تَقْصُرُ عَنْ مَحْوِ هَذَا الذَّنْبِ، وَقَدِ اسْتَقَرَّتْ حِكْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ عَدْلًا وَفَضْلًا أَنَّ‏:‏ التَّائِبَ مِنَ الذَّنْبِ كَمَنْ لَا ذَنْبَ لَهُ»، وَقَدْ ضَمِنَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِمَنْ تَابَ مِنَ الشِّرْكِ وَقَتْلِ النَّفْسِ وَالزِّنَى، أَنَّهُ يُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، وَهَذَا حُكْمٌ عَامٌّ لِكُلِّ تَائِبٍ مِنْ ذَنْبٍ‏.‏

وَقَدْ قَالَ تَعَالَى‏:‏ ‏{‏قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الزُّمَرِ‏:‏ 53‏]‏‏.‏

فَلَا يَخْرُجُ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ ذَنْبٌ وَاحِدٌ، وَلَكِنْ هَذَا فِي حَقِّ التَّائِبِينَ خَاصَّةً‏.‏

وَأَمَّا الْمَفْعُولُ بِهِ إِنْ كَانَ فِي كِبَرِهِ شَرًّا مِمَّا كَانَ فِي صِغَرِهِ؛ لَمْ يُوَفَّقْ لِتَوْبَةٍ نَصُوحٍ، وَلَا لِعَمَلٍ صَالِحٍ، وَلَا اسْتِدْرَاكِ مَا فَاتَ، وَلَا أَبْدَلَ السَّيِّئَاتِ بِالْحَسَنَاتِ، فَهَذَا بَعِيدٌ أَنْ يُوَفَّقَ عِنْدَ الْمَمَاتِ لِخَاتِمَةٍ يَدْخُلُ بِهَا الْجَنَّةَ، عُقُوبَةً لَهُ عَلَى عَمَلِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى يُعَاقِبُ عَلَى السَّيِّئَةِ بِسَيِّئَةٍ أُخْرَى، وَتَتَضَاعَفُ عُقُوبَةُ السَّيِّئَاتِ بَعْضِهَا بِبَعْضٍ، كَمَا يُثِيبُ عَلَى الْحَسَنَةِ بِحَسَنَةٍ أُخْرَى‏.‏

إِذَا نَظَرْتَ إِلَى حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الْمُحْتَضِرِينَ وَجَدْتَهُمْ يُحَالُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ حُسْنِ الْخَاتِمَةِ، عُقُوبَةً لَهُمْ عَلَى أَعْمَالِهِمُ السَّيِّئَةِ‏.‏

قَالَ الْحَافِظُ أَبُو مُحَمَّدٍ عَبْدُ الْحَقِّ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْإِشْبِيلِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ‏:‏ وَاعْلَمْ أَنَّ لِسُوءِ الْخَاتِمَةِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ مِنْهَا - أَسْبَابًا، وَلَهَا طُرُقٌ وَأَبْوَابٌ، أَعْظَمُهَا الِانْكِبَابُ عَلَى الدُّنْيَا، وَالْإِعْرَاضُ عَنِ الْأُخْرَى، وَالْإِقْدَامُ وَالْجَرْأَةُ عَلَى مَعَاصِي اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَرُبَّمَا غَلَبَ عَلَى الْإِنْسَانِ ضَرْبٌ مِنَ الْخَطِيئَةِ، وَنَوْعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، وَجَانِبٌ مِنَ الْإِعْرَاضِ، وَنَصِيبٌ مِنَ الْجَرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ، فَمَلَكَ قَلْبَهُ، وَسَبَى عَقْلَهُ وَأَطْفَأَ نُورَهُ وَأَرْسَلَ عَلَيْهِ حُجُبَهُ فَلَمْ تَنْفَعْ فِيهِ تَذْكِرَةٌ، وَلَا نَجَحَتْ فِيهِ مَوْعِظَةٌ، فَرُبَّمَا جَاءَهُ الْمَوْتُ عَلَى ذَلِكَ، فَسَمِعَ النِّدَاءَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ، فَلَمْ يَتَبَيَّنْ لَهُ الْمُرَادُ، وَلَا عَلِمَ مَا أَرَادَ، وَإِنْ كَرَّرَ عَلَيْهِ الدَّاعِي وَأَعَادَ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيُرْوَى أَنَّ بَعْضَ رِجَالِ النَّاصِرِ نَزَلَ الْمَوْتُ بِهِ، فَجَعَلَ ابْنُهُ يَقُولُ‏:‏ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَقَالَ‏:‏ النَّاصِرُ مَوْلَايَ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ، فَأَعَادَ مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ أَصَابَتْهُ غَشْيَةٌ، فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ‏:‏ النَّاصِرُ مَوْلَايَ، وَكَانَ هَذَا دَأْبَهُ كُلَّمَا قِيلَ لَهُ قُلْ‏:‏ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، قَالَ‏:‏ النَّاصِرُ مَوْلَايَ، ثُمَّ قَالَ لِابْنِهِ‏:‏ يَا فُلَانُ، النَّاصِرُ إِنَّمَا يَعْرِفُكَ بِسَيْفِكَ، وَالْقَتْلَ الْقَتْلَ، ثُمَّ مَاتَ‏.‏

قَالَ عَبْدُ الْحَقِّ‏:‏ وَقِيلَ لِآخَرَ - مِمَّنْ أَعْرِفُهُ - قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ‏.‏ فَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ الدَّارُ الْفُلَانِيَّةُ أَصْلِحُوا فِيهَا كَذَا، وَالْبُسْتَانُ الْفُلَانِيُّ افْعَلُوا فِيهِ كَذَا‏.‏

وَقَالَ‏:‏ وَفِيمَا أَذِنَ أَبُو طَاهِرٍ السَّلَفِيُّ أَنْ أُحَدِّثَ بِهِ عَنْهُ‏:‏ أَنَّ رَجُلًا نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ، فَقِيلَ لَهُ‏:‏ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ بِالْفَارِسِيَّةِ‏:‏ دَهْ يَازَدَهْ دَهْ وَازَدَهْ، تَفْسِيرُهُ‏:‏ عَشْرٌ بِأَحَدَ عَشَرَ‏.‏

وَقِيلَ لِآخَرَ‏:‏ قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، فَجَعَلَ يَقُولُ‏:‏ أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ‏؟‏

قَالَ‏:‏ وَهَذَا الْكَلَامُ لَهُ قِصَّةٌ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلًا كَانَ وَاقِفًا بِإِزَاءِ دَارِهِ، وَكَانَ بَابُهَا يُشْبِهُ بَابَ هَذَا الْحَمَّامِ، فَمَرَّتْ بِهِ جَارِيَةٌ لَهَا مَنْظَرٌ، فَقَالَتْ‏:‏ أَيْنَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ هَذَا حَمَّامُ مِنْجَابِ، فَدَخَلَتِ الدَّارَ وَدَخَلَ وَرَاءَهَا، فَلَمَّا رَأَتْ نَفْسَهَا فِي دَارِهِ وَعَلِمَتْ أَنَّهُ قَدْ خَدَعَهَا، أَظْهَرَتْ لَهُ الْبُشْرَى وَالْفَرَحَ بِاجْتِمَاعِهَا مَعَهُ، وَقَالَتْ لَهُ‏:‏ يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ مَعَنَا مَا يَطِيبُ بِهِ عَيْشُنَا وَتَقَرُّ بِهِ عُيُونُنَا، فَقَالَ لَهَا‏:‏ السَّاعَةَ آتِيكِ بِكُلِّ مَا تُرِيدِينَ وَتَشْتَهِينَ، وَخَرَجَ وَتَرَكَهَا فِي الدَّارِ وَلَمْ يُغْلِقْهَا، فَأَخَذَ مَا يَصْلُحُ وَرَجَعَ، فَوَجَدَهَا قَدْ خَرَجَتْ وَذَهَبَتْ، وَلَمْ تَخُنْهُ فِي شَيْءٍ، فَهَامَ الرَّجُلُ وَأَكْثَرَ الذِّكْرَ لَهَا، وَجَعَلَ يَمْشِي فِي الطُّرُقِ وَالْأَزِقَّةِ وَيَقُولُ‏:‏

يَا رُبَّ قَائِلَةٍ يَوْمًا وَقَدْ تَعِبَتْ *** كَيْفَ الطَّرِيقُ إِلَى حَمَّامِ مِنْجَابِ‏؟‏

فَبَيْنَمَا هُوَ يَوْمًا يَقُولُ ذَلِكَ، إِذَا بِجَارِيَتِهِ أَجَابَتْهُ مِنْ طَاقٍ‏:‏

هَلَّا جَعَلْتَ سَرِيعًا إِذْ ظَفِرْتَ بِهَا *** حِرْزًا عَلَى الدَّارِ أَوْ قُفْلًا عَلَى الْبَابِ

فَازْدَادَ هَيَمَانُهُ وَاشْتَدَّ، وَلَمْ يَزَلْ عَلَى ذَلِكَ، حَتَّى كَانَ هَذَا الْبَيْتُ آخِرَ كَلَامِهِ مِنَ الدُّنْيَا‏.‏

وَلَقَدْ بَكَى سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ لَيْلَةً إِلَى الصَّبَاحِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ قِيلَ لَهُ‏:‏ كُلُّ هَذَا خَوْفًا مِنَ الذُّنُوبِ‏؟‏ فَأَخَذَ تِبْنَةً مِنَ الْأَرْضِ، وَقَالَ‏:‏ الذُّنُوبُ أَهْوَنُ مِنْ هَذَا، وَإِنَّمَا أَبْكِي مِنْ خَوْفِ سُوءِ الْخَاتِمَةِ‏.‏

وَهَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْفِقْهِ‏:‏ أَنْ يَخَافَ الرَّجُلُ أَنْ تَخْذُلَهُ ذُنُوبُهُ عِنْدَ الْمَوْتِ، فَتَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخَاتِمَةِ الْحُسْنَى‏.‏

وَقَدْ ذَكَرَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ أَنَّهُ لَمَّا احْتُضِرَ جَعَلَ يُغْمَى عَلَيْهِ ثُمَّ يَفِيقُ وَيَقْرَأُ‏:‏ ‏{‏وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏سُورَةُ الْأَنْعَامِ‏:‏ 110‏]‏‏.‏

فَمِنْ هَذَا خَافَ السَّلَفُ مِنَ الذُّنُوبِ، أَنْ تَكُونَ حِجَابًا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْخَاتِمَةِ الْحُسْنَى‏.‏

قَالَ‏:‏ وَاعْلَمْ أَنَّ سُوءَ الْخَاتِمَةِ - أَعَاذَنَا اللَّهُ تَعَالَى مِنْهَا - لَا تَكُونُ لِمَنِ اسْتَقَامَ ظَاهِرُهُ وَصَلُحَ بَاطِنُهُ، مَا سُمِعَ بِهَذَا وَلَا عُلِمَ بِهِ وَلِلَّهِ الْحَمْدُ، وَإِنَّمَا تَكُونُ لِمَنْ لَهُ فَسَادٌ فِي الْعَقْدِ، أَوْ إِصْرَارٌ عَلَى الْكَبَائِرِ، وَإِقْدَامٌ عَلَى الْعَظَائِمِ، فَرُبَّمَا غَلَبَ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَنْزِلَ بِهِ الْمَوْتُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، فَيَأْخُذُهُ قَبْلَ إِصْلَاحِ الطَّوِيَّةِ، وَيَصْطَلِمُهُ قَبْلَ الْإِنَابَةِ فَيَظْفَرُ بِهِ الشَّيْطَانُ عِنْدَ تِلْكَ الصَّدْمَةِ، وَيَخْتَطِفُهُ عِنْدَ تِلْكَ الدَّهْشَةِ، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيُرْوَى أَنَّهُ كَانَ بِمِصْرَ رَجُلٌ يَلْزَمُ مَسْجِدًا لِلْأَذَانِ وَالصَّلَاةِ، وَعَلَيْهِ بَهَاءُ الطَّاعَةِ وَأَنْوَارُ الْعِبَادَةِ، فَرَقِيَ يَوْمًا الْمَنَارَةَ عَلَى عَادَتِهِ لِلْأَذَانِ، وَكَانَ تَحْتَ الْمَنَارَةِ دَارٌ لِنَصْرَانِيٍّ، فَاطَّلَعَ فِيهَا، فَرَأَى ابْنَةَ صَاحِبِ الدَّارِ فَافْتُتِنَ بِهَا، فَتَرَكَ الْأَذَانَ، وَنَزَلَ إِلَيْهَا، وَدَخَلَ الدَّارَ عَلَيْهَا، فَقَالَتْ لَهُ‏:‏ مَا شَأْنُكَ وَمَا تُرِيدُ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أُرِيدُكِ، فَقَالَتْ‏:‏ لِمَاذَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ قَدْ سَبَيْتِ لُبِّي، وَأَخَذْتِ بِمَجَامِعِ قَلْبِي، قَالَتْ‏:‏ لَا أُجِيبُكَ إِلَى رِيبَةٍ أَبَدًا، وَقَالَ‏:‏ أَتَزَوَّجُكِ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ أَنْتَ مُسْلِمٌ وَأَنَا نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبِي لَا يُزَوِّجُنِي مِنْكَ، قَالَ‏:‏ أَتَنَصَّرُ، قَالَتْ‏:‏ إِنْ فَعَلْتَ أَفْعَلُ، فَتَنَصَّرَ الرَّجُلُ لِيَتَزَوَّجَهَا، وَأَقَامَ مَعَهُمْ فِي الدَّارِ، فَلَمَّا كَانَ فِي أَثْنَاءِ ذَلِكَ الْيَوْمِ، رَقِيَ إِلَى سَطْحٍ كَانَ فِي الدَّارِ فَسَقَطَ مِنْهُ فَمَاتَ، فَلَمْ يَظْفَرْ بِهَا، وَفَاتَهُ دِينُهُ‏.‏

قَالَ‏:‏ وَيُرْوَى أَنَّ رَجُلًا عَشِقَ شَخْصًا فَاشْتَدَّ كَلَفُهُ بِهِ، وَتَمَكَّنَ حُبُّهُ مِنْ قَلْبِهِ، حَتَّى وَقَعَ أَلَمٌ بِهِ وَلَزِمَ الْفِرَاشَ بِسَبَبِهِ، وَتَمَنَّعَ ذَلِكَ الشَّخْصُ عَلَيْهِ، وَاشْتَدَّ نِفَارُهُ عَنْهُ، فَلَمْ تَزَلِ الْوَسَائِطُ يَمْشُونَ بَيْنَهُمَا حَتَّى وَعَدَهُ بِأَنْ يَعُودَهُ، فَأَخْبَرَهُ بِذَلِكَ النَّاسُ، فَفَرِحَ وَاشْتَدَّ سُرُورُهُ وَانْجَلَى غَمُّهُ، وَجَعَلَ يَنْتَظِرُ الْمِيعَادَ الَّذِي ضَرَبَ لَهُ، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ جَاءَهُ السَّاعِي بَيْنَهُمَا، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ وَصَلَ مَعِي إِلَى بَعْضِ الطَّرِيقِ وَرَجَعَ، وَرَغَّبْتُ إِلَيْهِ وَكَلَّمْتُهُ، فَقَالَ‏:‏ إِنَّهُ ذَكَرَنِي وَصَرَّحَ بِي، وَلَا أَدْخُلُ مَدَاخِلَ الرِّيبَةِ وَلَا أُعَرِّضُ نَفْسِي لِمَوَاقِعِ التُّهَمِ، فَعَاوَدْتُهُ فَأَبَى وَانْصَرَفَ، فَلَمَّا سَمِعَ الْبَائِسُ أُسْقِطَ فِي يَدِهِ، وَعَادَ إِلَى أَشَدَّ مِمَّا كَانَ بِهِ، وَبَدَتْ عَلَيْهِ عَلَائِمُ، فَجَعَلَ يَقُولُ فِي تِلْكَ الْحَالِ‏:‏

يَا سَلْمُ يَا رَاحَةَ الْعَلِيلِ *** وَيَا شِفَا الْمُدْنَفِ النَّحِيلِ

رِضَاكِ أَشْهَى إِلَى فُؤَادِي *** مِنْ رَحْمَةِ الْخَالِقِ الْجَلِيلِ

فَقُلْتُ لَهُ‏:‏ يَا فُلَانُ اتَّقِ اللَّهَ، قَالَ‏:‏ قَدْ كَانَ، فَقُمْتُ عَنْهُ، فَمَا جَاوَزْتُ بَابَ دَارِهِ حَتَّى سَمِعْتُ صَيْحَةَ الْمَوْتِ، فَعِيَاذًا بِاللَّهِ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ، وَشُؤْمِ الْخَاتِمَةِ‏.‏